فصل: تفسير الآيات رقم (109- 112)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 95‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ‏(‏94‏)‏ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

عطفت الواو جملة ‏{‏ما أرسلنا‏}‏ على جملة ‏{‏وإلى مدين أخاهم شعيباً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 85‏]‏، عطف الأعم على الأخص‏.‏ لأن ما ذكر من القصص ابتداء من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 59‏]‏ كله، القصد منه العبرة بالأمم الخالية موعظة لكفّار العرب فلما تلا عليهم قصص خمس أمم جاء الآن بحكم كلي يعم سائر الأمم المكذبة على طريقة قياس التمثيل، أو قياس الاستقراء الناقص، وهو أشهر قياس يسلك في المقامات الخطابية، وهذه الجمل إلى قوله‏:‏ ‏{‏ثم بعثنا من بعدهم موسى‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 75‏]‏ كالمعترضة بين القَصَص، للتنبيه على موقع الموعظة، وذلك هو المقصود من تلك القصص، فهو اعتراض ببيان المقصود من الكلام وهذا كثير الوقوع في اعتراض الكلام‏.‏

وعُدّيَ ‏{‏أرسلنا‏}‏ ب ‏(‏في‏)‏ دون ‏(‏إلى‏)‏ لأن المراد بالقرية حقيقتها، وهي لا يرسل إليها وإنما يرسل فيها إلى أهلها، فالتقدير‏:‏ وما أرسلنا في قرية من نبيء إلى أهلها إلاّ أخذنا أهلها فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان ربّك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 59‏]‏ ولا يجري في هذا من المعنى ما يجري في قوله تعالى الآتي قريباً‏:‏ ‏{‏وأرسل في المدائن حاشرين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 111‏]‏ إذ لا داعي إليه هنا‏.‏

و ‏{‏منْ‏}‏ مزيد للتنصيص على العموم المستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي، وتخصيص القرى بإرسال الرسل فيها دون البوادي كما أشارت إليه هذه الآية وغيرها من آي القرآن، وشهد به تاريخ الأديان، ينبئ أن مراد الله تعالى من إرسال الرسل هو بث الصلاح لأصحاب الحضارة التي يتطرق إليها الخلل بسبب اجتماع الأصناف المختلفة، وإن أهل البوادي لا يخلون عن الإنحياز إلى القرى والإيواء في حاجاتهم المدنية إلى القرى القريبة، فأما مجيء نبيء غير رسول لأهل البوادي فقد جاء خالد بن سنان نبياً في بني عبس، وأما حنظلة بن صفوان نبيء أهل الرسّ فالأظهر أنه رسول لأن الله ذكر أهل الرسل في عداد الأمم المكذبة، وقد قيل‏:‏ إنه ظهر بقرية الرس التي تسمى أيضاً ‏(‏فتح‏)‏ بالمهملة أو ‏(‏فتَخ‏)‏ بالمعجمة أو ‏(‏فيْج‏)‏ بتحتية وجيم، أو فلْج ‏(‏بلام وجيم‏)‏ من اليمامة‏.‏

والاستثناء مفرغ من أحوال، أي ما أرسلنا نبيّاً في قرية في حال من الأحوال إلاّ في حال أنّنا أخذنا أهلها بالبأساء، وقد وقع في الكلام إيجاز حذف دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏لعلهم يضرّعون‏}‏ فإنه يدل على أنهم لم يضرّعُوا قبل الأخذ بالبأساء والضراء، فالتقدير‏:‏ وما أرسلنا في قرية من نبيء إلاّ كذبه أهل القرية فخوفناهم لعلّهم يذلون لله ويتركون العناد الخ‏.‏‏.‏‏.‏

والأخذ‏:‏ هنا مجاز في التناول والإصابة بالمكروه الذي لا يستطاع دفعه، وهو معنى الغلبة، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخدناهم بالبأساء والضراء‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏42‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ بالبأساء والضراء لعلهم يضرّعون‏}‏ تقدم ما يُفسّرها في قوله‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلّهم يتضرعون‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏42‏)‏‏.‏ ويُفسر بعضها أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏والصابرين في البأساء والضراء‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏177‏)‏‏.‏

واستغنت جملة الحال الماضوية على الواو و‏(‏قد‏)‏ بحرف الاستثناء، فلا يجتمع مع ‏(‏قد‏)‏ إلاَّ نادراً، أي‏:‏ ابتدأناهم بالتخويف والمصائب لتَفُل من حدتهم وتصرف تأملهم إلى تطلب أسباب المصائب فيعلموا أنها من غضب الله عليهم فيتوبوا‏.‏

والتبديل‏:‏ التعويض، فحقه أن يتعدى إلى المفعول الثاني بالباء المفيدة معنى البدلية ويكون ذلك المفعول الثاني المدخول للباء هو المتروك، والمفعول الأول هو المأخوذ، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏61‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب‏}‏ في سورة النساء ‏(‏2‏)‏، لذلك انتصب الحسنة‏}‏ هنا لأنها المأخوذة لهم بعد السيّئة فهي المفعول الأول والسيّئة هي المتروكة، وعدل عن جر السيئة بالباء إلى لفظ يؤدي مُؤَدى باء البدلية وهو لفظ ‏(‏مكان‏)‏ المستعمل ظرفاً مجازاً عن الخلَفية، يقال خذ هذا مكانَ ذلك، أي‏:‏ خذه خلفاً عن ذلك لأن الخلَف يحل في مكان المخلوف عنه، ومن هذا القبيل قول امرئ القيس‏:‏

وبُدلْتُ قُرحاً دامياً بعد نعمة ***

فجعل ‏(‏بعدَ‏)‏ عوضاً عن باء البدلية‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏مكانَ‏}‏ مَنصوب على الظرفية مجازاً، أي‏:‏ بَدلناهم حسنة في مكان السيّئة، والحسنة اسم اعتبر مؤنثاً لتأويله بالحالة والحادثة وكذلك السيئة فهما في الأصل صفتان لموصوف محذوف، ثم كثر حذف الموصوف لقلة جدوى ذكره فصارت الصفتان كالاسمين، ولذلك عبر عن الحسنة في بعض الآيات بما يُتَلَمّح منه معنى وصفيّتها نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تستوي الحسنة ولا السيّئة ادفع بالتي هي أحسنُ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 34‏]‏ أي‏:‏ ادفع السيّئة بالحسنة، فلما جاء بطريقة الموصولية والصلة بأفعل التفضيل تُلمح معنى الوصفية فيهما، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادفع بالتي هي أحسن السيّئة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 34‏]‏‏.‏ ومثلهما في هذا المصيبة، كما في قوله تعالى في سورة براءة ‏(‏50‏)‏‏:‏ ‏{‏إن تُصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل‏}‏ أي‏:‏ بدّلناهم حالة حسنة بحالتهم السيّئة وهي حالة البأساء والضراء‏.‏

فالتعريف تعريف الجنس، وهو مشعر بأنهم أعطوا حالة حسنة بطيئة النفع لا تبلغ مبلغ البركة‏.‏

و ‏{‏حتى‏}‏ غاية لما يتضمنه ‏{‏بدّلنا‏}‏ من استمرار ذلك وهي ابتدائية، والجملة التي بعدها لا محل لها‏.‏

و ‏{‏عَفْوا‏}‏ كثُروا‏.‏ يقال‏:‏ عفا النبات، إذا كثر ونما، وعطف ‏{‏وقالوا‏}‏ على ‏{‏عفوا‏}‏ فهو من بقية الغاية‏.‏

والسّرّاء‏:‏ النعمة ورَخاء العيش، وهي ضد الضراء‏.‏

والمعنى أنا نأخذهم بما يغير حالهم التي كانوا فيها من رخاء وصحة عسى أن يعلموا أن سلب النعمة عنهم أمارة على غضب الله عليهم من جرّاء تكذيبهم رسولهم فلا يهتدون، ثم نردهم إلى حالتهم الأولى إمهالاً لهم واستدراجاً فيزدادون ضلالاً، فإذا رأوا ذلك تعللوا لما أصابهم من البؤس والضر بأن ذلك التغيير إنما هو عارض من عوارض الزمان وأنه قد أصاب أسلافهم من قبلهم ولم يَجئهم رسُل‏.‏

وهذه عادة الله تعالى في تنبيه عباده، فإنه يحب منهم التوسم في الأشياء والاستدلال بالعقل والنظر بالمسببات على الأسباب، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 126‏]‏ لأن الله لما وهب الإنسان العقل فقد أحب منه أن يستعمله فيما يبلغ به الكمال ويقيه الضلال‏.‏

وظاهر الآية‏:‏ أن هذا القول صادر بألسنتهم وهو يكون دائراً فيما بين بعضهم وبعض في مجادلتهم لرسُلهم حينما يعظونهم بما حلّ بهم ويدْعونهم إلى التوبة والإيمان ليكشف عنهم الضر‏.‏

ويجوز أن يكون هذا القول أيضاً‏:‏ يجيش في نفوسهم ليدفعوا بذلك ما يخطر ببالهم من توقع أن يكون ذلك الضر عقاباً من الله تعالى، وإذ قد كان محكياً عن أمم كثيرة كانت له أحوال متعددة بتعدد ميادين النفوس والأحوال‏.‏

وحاصل ما دفعوا به دلالة الضراء على غضب الله أن مثل ذلك قد حل بآبائهم الذين لم يدْعُهم رسول إلى توحيد الله، وهذا من خطأ القياس وفساد الاستدلال، وذلك بحصر الشيء ذي الأسباب المتعددة في سبب واحد، والغفلة عن كون الأسباب يخلف بعضها بعضاً، مع الغفلة عن الفارق في قياس حالهم على حال آبائهم بأن آباءهم لم يأتهم رسُل من الله، وأما أقوام الرسل فإن الرسل تحذرهم الغضب والبأساء والضراء فتحيق بهم، أفلا يَدلُهم ذلك على أن ما حصل لهم هو من غضب الله عليهم، على أن غضب الله ليس منحصر الترتب على معصية الرسول بل يكون أيضاً عن الانغماس في الضلال المبين، مع وضوح أدلة الهدى للعقول، فإن الإشراك ضلال، وأدلة التوحيد واضحة للعقول، فإذا تأيدت الدلالة بإرسال الرسل المنذرين قويت الضلالة باستمرارها، وانقطاع أعذارها، ومثل هذا الخطأ يعرض للناس بداعي الهوى وإلف حال الضلال‏.‏

والفَاء في قوله‏:‏ ‏{‏فأخذناهم‏}‏ للتعقيب عن قوله‏:‏ ‏{‏عَفَوْا‏}‏، و‏{‏قالوا‏}‏، باعتبار كونهما غاية لإبدال الحسنة مكان السيئة، ولا إشعار فيه بأن قولهم ذلك هو سبب أخذهم بغتة ولكنه دل على إصرارهم، أي‏:‏ فحصل أخذنا إياهم عقب تحسن حالهم وبَطرهم النعمة‏.‏

والتعقيب عرفي فيصدق بالمدة التي لا تعد طولاً في العادة لحصول مثل هذه الحوادث العظيمة‏.‏

والأخذ هنا بمعنى الإهلاك كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أخذهم بغتة فإذا هم مبلسون‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏44‏)‏‏.‏

والبغتة‏:‏ الفجْأة، وتقدمت عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 31‏]‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏44‏)‏، وتقدم هنالك وجه نصبها‏.‏

وجملة‏:‏ وهم لا يشعرون‏}‏ حال مؤكدة لمعنى ‏{‏بغتة‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 99‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏96‏)‏ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ‏(‏97‏)‏ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏98‏)‏ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

عُطفت جملة ‏{‏ولو أن أهل القرى‏}‏ على جملة‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا في قرية من نبيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضراء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 94‏]‏ أي‏:‏ ما أرسلنا في قرية نبيئاً فكذبه أهلها إلاّ نبهناهم واستدرجناهم ثم عاقبناهم، ولو أن أهل تلك القرى المُهْلَكَةِ آمنوا بما جاءهم به رسولهم واتقوا ربهم لما أصبناهم بالبأساء ولأحييناهم حياة البركة، أي‏:‏ ما ظلمهم الله ولكنهم ظلموا أنفسهم‏.‏

وشرط ‏(‏لو‏)‏ الامتناعية يحصل في الزمن الماضي، ولما جاءت جملة شرطها مقترنة بحرف ‏(‏أنّ‏)‏ المفيد للتأكيد والمصدرية، وكان خبر ‏(‏أنّ‏)‏ فعلاً ماضياً توفر معنى المضي في جملة الشرط‏.‏ والمعنى‏:‏ لو حصل إيمانهم فيما مضى لفتحنا عليهم بركات‏.‏

والتقْوى‏:‏ هي تقوى الله بالوقوف عند حدوده وذلك بعد الإيمان‏.‏

والتعريف في ‏{‏القرى‏}‏ تعريف العهد، فإضافة ‏{‏أهل‏}‏ إليه تفيد عمومه بقدر ما أضيف هو إليه، وهذا تصريح بما أفهمه الإيجاز في قوله‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا في قرية من نبيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضراء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 94‏]‏ الآية كما تقدم، وتعريض بإنذار الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم من أهل مكة، وتعريض ببشارة أهل القُرى الذين يؤمنون كأهل المدينة، وقد مضى في صدر تفسير هذه السورة ما يقرّب أنها من آخر ما نزل بمكة، وقيل، إن آيات منها نزلت بالمدينة كما تقدم وبذلك يظهر موقع التعريض بالنذارة والبشارة للفريقين من أهل القرى، وقد أخذ الله أهل مكة بعد خروج المؤمنين منها فأصابهم بسبع سنين من القحط، وبارك لأهل المدينة وأغناهم وصرف عنهم الحمى إلى الجُحفة، والجُحفة يومئذٍ بلاد شرك‏.‏

والفتح‏:‏ إزالة حَجْز شيء حاجز عن الدخول إلى مكان، يقال‏:‏ فتح الباب وفتح البيت، وتعديته إلى البيت على طريقة التوسع، وأصله فتح للبيت، وكذلك قوله هنا‏:‏ ‏{‏لفتحنا عليهم بركات‏}‏ وقولُه‏:‏ ‏{‏ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 2‏]‏، ويقال‏:‏ فتح كوة، أي‏:‏ جعلها فتحة، والفتح هنا استعارة للتمكين، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏44‏)‏‏.‏

وتعدية فعل الفتح إلى البركات هنا استعارة مكنية بتشبيه البركات بالبيوت في الانتفاع بما تحتويه، فهنا استعارتان مكنية وتبعية، وقرأ ابن عامر‏:‏ لفتّحنا‏}‏ بتشديد التاءِ وهو يفيد المبالغة‏.‏

والبركات‏:‏ جمع بركة، والمقصود من الجمع تعددها، باعتبار تعدد أصناف الأشياء المباركة‏.‏ وتقدم تفسير البركة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهذا كتاب أنزلناه مبارك‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏92‏)‏‏.‏ وتقدم أيضاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن أول بيت وضع للناس للّذي بمكّة مباركاً‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏96‏)‏‏.‏ وتقدم أيضاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَبارك الله رب العالمين‏}‏ في هذه السورة ‏(‏54‏)‏، وجُماع معناها هو الخير الصالح الذي لا تبعة عليه في الآخرة فهو أحسن أحوال النعمة، ولذلك عبر في جانب المغضوب عليهم المستدرَجين بلفظ الحسنة‏}‏ بصيغة الإفراد في قوله‏:‏

‏{‏مكان السيئة الحسنة‏}‏ وفي ج ‏[‏الأعراف‏:‏ 95‏]‏ انب المؤمنين بالبركات مجموعة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من السماء والأرض‏}‏ مراد به حقيقته، لأن ما يناله الناس من الخيرات الدنيوية لا يعدو أن يكون ناشئاً من الأرض، وذلك معظم المنافع، أو من السماء مثل ماء المطر وشعاع الشمس وضوء القمر والنجوم والهواء والرياح الصالحة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولكن كذبوا‏}‏ استثناء لنقيض شرط ‏(‏لو‏)‏ فإن التكذيب هو عدم الإيمان فهو قياس استثنائي‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏فأخذناهم‏}‏ متسببة على جملة‏:‏ ‏{‏ولكن كذبوا‏}‏ وهو مثل نتيجة القياس، لأنه مساوي نقيضضِ التالي، لأن أخذهم بما كسبوا فيه عدم فتح البركات عليهم‏.‏

وتقدم معنى الأخذ آنفاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأخذناهم بغتة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 95‏]‏، والمراد به أخذ الاستئصال‏.‏

والباء للسببية أي بسبب ما كسبوه من الكفر والعصيان‏.‏

‏(‏والفاء‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏أفأمن أهل القرى‏}‏ عاطفة أفادت الترتب الذكري، فإنه لما ذكر من أحوال جميعهم ما هو مثار التعجيب من حالهم أعقبه بما يدل عليه معطوفاً بفاء الترتب‏.‏ ومحل التعجيب هو تواطؤهم على هذا الغرور، أي يترتب على حكاية تكذيبهم وأخذِهم استفهامُ التعجيب من غرورهم وأمنهم غضب القادر العليم‏.‏

وقد تقدم الكلام على مثل هذا التركيب عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفكلما جاءكم رسول‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏87‏)‏‏.‏

وجيء بقوله‏:‏ ‏{‏يأتيهم‏}‏ بصيغة المضارع لأن المراد حكاية أمنهم الذي مضى من إتيان بأس الله في مستقبل ذلك الوقت‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أوْ أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسناً ضحى وهم يلعبون‏}‏ قرأه نافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبو جعفر بسكون الواو على أنه عطف بحرف ‏(‏أو‏)‏ الذي هو لأحد الشيئين عطفاً على التعجيب، أي‏:‏ هو تعجيب من أحد الحالين‏.‏ وقرأه الباقون بفتح الواو على أنه عطف بالواو مقدمة عليه همزةُ الاستفهام، فهو عطف استفهام ثان بالواو المفيدة للجمع، فيكون كلا الاستفهامين مدخولاً لفاء التعقيب، على قول جمهور النحاة، وأما على رأي الزمخشري فيتعين أن تكون الواو للتقسيم، أي تقسيم الاستفهام إلى استفهامين، وتقدم ذكر الرأيين عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفكلما جاءكم رسول‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏87‏)‏‏.‏

و ‏{‏بياتاً‏}‏ تقدم معناه ووجه نصبه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسناً بياتاً‏}‏ في أول هذه السورة ‏(‏4‏)‏‏.‏

والضحَى بالضم مع القصر هو في الأصل اسم لضوء الشمس إذا أشرق وارتفع، وفسره الفقهاء بأن ترتفع الشمس قيد رمح، ويرادفه الضحوة والضّحْوُ‏.‏

والضحى يذكر ويؤنث، وشاع التوقيت به عند العرب ومن قبلهم، قال تعالى حكاية عن موسى‏:‏ ‏{‏قال مَوْعدكُمْ يوم الزينة وأن يُحشر الناس ضُحى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 59‏]‏‏.‏

وتقييد التعجيب من أمْنهم مجيءَ البأس، بوقتي البيات والضحى، من بين سائر الأوقات، وبحالي النوم واللعب، من بين سائر الأحوال، لأن الوقتين أجدر بأن يحذر حلول العذاب فيهما، لأنهما وقتان للدعة، فالبيات للنوم بعد الفراغ من الشغل‏.‏

والضحى للعب قبل استقبال الشغل، فكان شأن أولي النهى المعرضين عن دعوة رسل الله أن لا يأمنوا عذابه، بخاصة في هذين الوقتين والحالين‏.‏

وفي هذا التعجيب تعريض بالمشركين المكذبين للنبيء صلى الله عليه وسلم أن يحل بهم ما حلَّ بالأمم الماضية، فكان ذكر وقت البيات، ووقت اللعب، أشد مناسبة بالمعنى التعريضي،‏.‏ تهديداً لهم بأن يصيبهم العذاب بأفظع أحواله، إذ يكون حلوله بهم في ساعة دعتهم وساعة لهوهم نكاية بهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أفأمنوا مكر الله‏}‏ تكرير لقوله‏:‏ ‏{‏أفأمنَ أهل القرى‏}‏ قصد منه تقرير التعجيب من غفلتهم، وتقرير معنى التعريض بالسامعين من المشركين، مع زيادة التذكير بأن ما حل بأولئك من عذاب الله يماثل هيئة مكر الماكر بالممكور فلا يحسبوا الإمهال إعراضاً عنهم، وليحذروا أن يكون ذلك كفعل الماكر بعدوّه‏.‏

والمكر حقيقته‏:‏ فعل يقصد به ضر أحد في هيئة تخفَى أو هيئة يحسبها منفعة‏.‏ وهو هنا استعارة للإمهال والإنعام في حال الإمهال، فهي تمثيلية، شبه حال الإنعام مع الإمهال وتعقيبه بالانتقام بحال المكر، وتقدم في سورة آل عمران ‏(‏54‏)‏ عند قوله‏:‏ ‏{‏ومكَروا ومكر الله والله خير الماكرين‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون‏}‏ مُترتب ومتفرع عن التعجيب في قوله‏:‏ ‏{‏أفأمنوا مكر الله‏}‏ لأن المقصود منه تفريع أن أهل القرى المذكورين خاسرون لثبوت أنهم أمنوا مكر الله، والتقدير‏:‏ أفأمنوا مكر الله فهم قوم خاسرون‏.‏

وإنما صيغ هذا التفريع بصيغة تعُم المخبَر عنهم وغيرهم ليجري مجرى المثل ويصير تذييلاً للكلام، ويدخل فيه المعرّض بهم في هذه الموعظة وهم المشركون الحاضرون، والتقدير‏:‏ فهم قوم خاسرون، إذ لا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون‏.‏

والخسران هنا هو إضاعة ما فيه نفعهم بسوء اعتقادهم، شُبه ذلك بالخسران وهو إضاعة التاجر رأس ماله بسوء تصرفه، لأنهم باطمئنانهم إلى السلامة الحاضرة، وإعراضهم عن التفكر فيما يعقبها من الأخذ الشبيه بفعل الماكر قد خسروا الانتفاع بعقولهم وخسروا أنفسهم‏.‏

وتقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين خسروا أنفسهم‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏12‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فأولئك الذين خسروا أنفسهم‏}‏ في أول السورة ‏(‏9‏)‏‏.‏

وتقدم أن إطلاق المَكْر على أخذ الله مستحقي العقاب بعد إمهالهم‏:‏ أن ذلك تمثيل عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏54‏)‏‏.‏

واعلم أن المراد بأمن مكر الله في هذه الآية هو الأمن الذي من نوع أمن أهل القرى المكذبين، الذي ابتُدئ الحديث عنه من قوله‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا في قرية من بنيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضّراء لعلهم يضرّعون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 94‏]‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً‏}‏ الآياتتِ، وهو الأمن الناشئ عن تكذيب خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن الغرور بأن دين الشرك هو الحق فهو أمن ناشئ عن كفر، والمأمون منه هو وعيد الرسل إياهم وما أطلق عليه أنه مكر الله‏.‏

ومن الأمن من عذاب الله أصنْاف أخرى تُغاير هذا الأمن، وتتقارب منه، وتتباعد، بحسب اختلاف ضمائر الناس ومبالغ نياتهم، فأما ما كان منها مستنداً لدليل شرعي فلا تَبعةَ على صاحبه، وذلك مثل أمن المسلمين من أمثال عذاب الأمم الماضية المستند إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 33‏]‏، وإلى قول النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم‏}‏ فقال النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ أعوذ بسبحات وجهك الكريم ‏{‏أَوْ مِن تحت أرجلكم‏}‏ فقال‏:‏ ‏"‏ أعوذ بسبحات وجهك الكريم ‏{‏أو يلبسكم شيعا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 65‏]‏ الآية فقال‏:‏ هذه أهون ‏"‏ كما تقدم في تفسيرها في سورة الأنعام ومثل، أمن أهل بدر من عذاب الآخرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما يدريك لعل الله اطّلع على أهل بدر فقال‏:‏ «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ‏"‏ في قصة حاطب بن أبي بلتعة‏.‏

ومثل إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عبدَ الله بن سلام أنه لا يزال آخذاً بالعروة الوثقى، ومثل الأنبياء فإنهم آمنون من مكر الله بإخبار الله إياهم بذلك، وأولياءُ الله كذلك، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 62، 63‏]‏ فمن العجيب ما ذكره الخفاجي أن الحنفية قالوا‏:‏ الأمنُ من مكر الله كفر لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون‏}‏‏.‏

والأمنُ مجمل ومكر الله تمثيل والخسران مشكك الحقيقة‏.‏ وقال الخفاجي‏:‏ الأمنُ من مكر الله كبيرة عند الشافعية، وهو الاسترسال على المعاصي اتكالاً على عفو الله وذلك مما نسبه الزركشي في «شرح جمع الجوامع» إلى ولي الدين، وروى البزار وابن أبي حاتم عن ابن عباس‏:‏ ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل‏:‏ ما الكبائر فقال‏:‏ الشرك بالله واليأس من روح الله والأمنُ من مكر الله ‏"‏ ولم أقف على مبلغ هذا الحديث من الصحة، وقد ذكرنا غير مرة أن ما يأتي في القرآن من الوعيد لأهل الكفر على أعمال لهم مرادٌ منه أيضاً تحذير المسلمين مما يشبه تلك الأعمال بقدر اقتراب شبهه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

عطفت على جملة‏:‏ ‏{‏أفأمن أهل القرى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 97‏]‏ لاشتراك مضمون الجملتين في الاستفهام التعجيبي، فانتقُل عن التعجيب من حال الذين مضوا إلى التعجيب من حال الأمة الحاضرة، وهي الأمة العربية الذين ورثوا ديار الأمم الماضية فسكنوها‏:‏ مثل أهل نَجْران، وأهل اليمن، ومن سكنوا ديار ثمود مثل بَليِّ، وكعب، والضجاغم، وبهراء، ومن سكنوا ديار مَدْين مثل جُهَيْنة، وجَرْم، وكذلك من صاروا قبائل عظيمة فنالوا السيادة على القبائل‏:‏ مثل قُريش، وطَي، وتَميم، وهُذَيْل‏.‏ فالموصول بمنزلة لام التعريف العهدي، وقد يقصد بالذين يرثون الأرض كل أمة خلفت أمة قبلها، فيشمل عاداً وثموداً، فقد قال لكلَ نبيّهم ‏{‏واذكروا إذ جلعكم خلفاء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 74‏]‏ الخ ولكن المشركين من العرب يومئذٍ مقصودون في هذا ابتداء‏.‏ فالموصول بمنزلة لام الجنس‏.‏

والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏أو لم يهد‏}‏ مستعمل في التعجيب‏.‏ مثل الذي في قوله‏:‏ ‏{‏أفأمن أهلُ القرى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 97‏]‏ تعجيباً من شدة ضلالتهم إذ عدموا الاهتداء والاتعاظ بحال من قبلهم من الأمم، ونسوا أن الله قادر على استئصالهم إذا شاءه‏.‏

والتعريف في الأرض تعريف الجنس، أي يرثون أي أرض كانت منازل لقوم قبلهم، وهذا إطلاق شائع في كلام العرب، يقولون هذه أرض طَيء، وفي حديث الجنازة «من أهل الأرض» أي من السكان القاطنين بأرضهم لا من المسلمين الفاتحين فالأرض بهذا المعنى اسم جنس صادق على شائع متعدد، فتعريفه تعريف الجنس، وبهذا الإطلاق جُمعت على أرضين، فالمعنى‏:‏ أو لم يهد للذين يرثون أرضاً من بعد أهلها‏.‏

والإرث‏:‏ مصير مال الميت إلى من هو أولى به، ويطلق مجازاً على مماثلة الحي مَيتاً في صفات كانت له، من عزّأ وسيادة، كما فسر به قوله تعالى حكاية عن زكرياء ‏{‏فهب لي من لدنك ولياً يرثني‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 5، 6‏]‏ أي يخلفني في النبوءة، وقد يطلق على القَدْر المشترك بين المعنيين، وهو مطلقُ خلافةِ المُنْقَرَضضِ‏.‏ وهو هنا محتمل للإطلاقين، لأنه إن أريد بالكلام أهل مكة فالإرث بمعناه المجازي، وإن أريد أهل مكة والقبائل التي سكنت بلاد الأمم الماضية فهو مستعمل في القدر المشترك، وهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن الأرض يرثها عبادي الصالحون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 105‏]‏ وأيّاً ما كان فقيْدُ ‏{‏من بعد أهلها‏}‏ تأكيدٌ لمعنى ‏{‏يرثون‏}‏، يراد منه تذكير السامعين بما كان فيه أهل الأرض الموروثة من بحبوحة العيش، ثم ما صاروا إليه من الهلاك الشامل العاجل، تصويراً للموعظة بأعظم صورة فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 129‏]‏‏.‏

ومعنى ‏{‏لم يهد‏}‏ لم يرشد ويُبَيْن لهم، فالهداية أصلها تبيين الطريق للسائر، واشتهر استعمالهم في مطلق الإرشاد‏:‏ مجازاً أو استعارة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اهْدنا الصراط المستقيم‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وتقدم أن فعلها يتعدى إلى مفعولين، وأنه يتعدى إلى الأول منهما بنفسه وإلى الثاني تارة بنفسه وأخرى بالحرف‏:‏ اللام أو ‏(‏إلى‏)‏، فلذلك كانت تعديته إلى المفعول الأول باللام في هذه الآية إمّا لتضمينه معنى يُبين، وإما لتقوية تعلق معنى الفعل بالمفعول كما في قولهم‏:‏ شكرتُ له، وقوله تعالى‏:‏

‏{‏فَهَبْ لي من لدنك ولياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 5‏]‏، ومثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم‏}‏ في سورة طه ‏(‏128‏)‏‏.‏

و ‏{‏أنْ‏}‏ مخففة من ‏(‏أنّ‏)‏ واسمها ضمير الشأن، وجملة ‏{‏لو نشاء‏}‏ خبرها‏.‏ ولما كانت ‏(‏أن‏)‏ المفتوحة الهمزة من الحروف التي تفيد المصدرية على التحقيق لأنها مركّبة من ‏(‏إنّ‏)‏ المكسورة المشددة، ومن ‏(‏أنّ‏)‏ المفتوحة المخففة المصدرية لذلك عُدّت في الموصولات الحرفية وكان ما بعدها مؤولاً بمصدر منسبك من لفظ خبرها إن كان مفرداً مشتقاً، أو من الكَون إن كان خبرها جملة، فموقع ‏{‏أن لو نشاء أصبناهم‏}‏ موقعُ فاعل ‏{‏يهد‏}‏، والمعنى‏:‏ أو لم يبيّنْ للذين يخلْفون في الأرض بعد أهلها كونُ الشأن المهم وهو لو نشاءُ أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا من قبلهم‏.‏

وهؤلاء هم الذين أشركوا بالله وكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم

والإصابة‏:‏ نوال الشيء المطلوب بتمكّن فيه‏.‏ فالمعنى‏:‏ أن نأخذهم أخذاً لا يفلتون منه‏.‏ والباء في ‏{‏بذنوبهم‏}‏ للسببية، وليست لتعدية فعل ‏{‏أصبناهم‏}‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏أنْ لو نشاء أصبناهم بذنوبهم‏}‏ واقعة موقع مفرد، هو فاعل ‏{‏يَهْدِ‏}‏، ف ‏(‏إنْ‏)‏ مخففة من الثقيلة وهي من حروف التأكيد والمصدرية واسمها في حالةِ التخفيف، ضمير شأن مقدر، وجملة شرط ‏(‏لو‏)‏ وجوابه خبر ‏(‏أنّ‏)‏‏.‏

و ‏(‏لو‏)‏ حرف شرط يفيد تعليق امتناع حصول جوابه لأجل امتناع حصول شرطه‏:‏ في الماضي، أو في المستقبل، وإذ قد كان فعل الشرط هنا مضارعاً كان في معنى الماضي، إذ لا يجوز اختلاف زمني فعلي الشرط والجواب، وإنما يخالف بينهما في الصورة لمجرد التفنن كراهية تكرير الصورة الواحدة، فتقدير قوله‏:‏ ‏{‏لَوْ نشاء أصبناهُم‏}‏ انْتفى أخذُنَا إياهم في الماضي بذنوب تكذيبهم، لأجل انتفاء مشيئتنا ذلك لحكمة إمهالهم لا لكونهم أعزّ من الأمم البائدة أو أفضل حالاً منهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 21‏]‏ الآية، وفي هذا تهديد بأن الله قد يصيبهم بذنوبهم في المستقبل، إذ لا يصده عن ذلك غالبٌ، والمعنى‏:‏ أغرهم تأخّر العذاب مع تكذيبهم فحسبوا أنفسهم في منعة منه، ولم يهتدوا إلى أن انتفاء نزوله بهم معلق على انتفاء مشيئتنا وقوعَه لحكمة، فما بينهم وبين العذاب إلاّ أن نشاء أخذهم، والمصدر الذي تفيده ‏(‏أن‏)‏ المخففة، إذا كان اسمها ضمير شأن، يقدر ثُبوتاً متصيّداً مما في ‏(‏أنْ‏)‏ وخبرها من النسبة المؤكدة، وهو فاعل ‏{‏يَهِد‏}‏ فالتقدير في الآية‏:‏ أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها ثبوتُ هذا الخبر المُهم وهو ‏{‏لو نشاء أصبناهم بذنوبهم‏}‏‏.‏

والمعنى‏:‏ اعْجَبوا كيف لم يهتدوا إلى أن تأخير العذاب عنهم هو بمحض مشيئتنا وأنه يحق عليهم عندما نشاؤه‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ونطبع على قلوبهم‏}‏ ليست معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏أصبناهم‏}‏ حتى تكون في حكم جواب ‏(‏لو‏)‏ لأن هذا يفسد المعنى، فإن هؤلا الذين ورثوا الأرض من بعد أهلها قد طُبع على قلوبهم فلذلك لم تُجْدِ فيهم دعوة محمد صلى الله عليه وسلم مُنذ بُعث إلى زمن نزول هذه السورة، فلو كان جواباً ل ‏(‏لو‏)‏ لصار الطبع على قلوبهم ممتنعاً وهذا فاسد، فتعين‏:‏ إما أن تكون جملة ‏{‏ونطبع‏}‏ معطوفة على جملة الاستفهام برُمَتها فلها حكمها من العطف على أخبار الأمم الماضية والحاضرة‏.‏

والتقدير‏:‏ وطَبَعنا على قلوبهم، ولكنه صيغ بصيغة المضارع للدلالة على استمرار هذا الطبع وازدياده آنا فآنا، وإمّا أن تجعل ‏(‏الواو‏)‏ للاستئناف والجملة مستأنفة، أي‏:‏ ونحن نطبع على قلوبهم في المستقبل كما طبعنا عليها في الماضي، ويُعرف الطبع عليها في الماضي بأخبار أخرى كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا سواء عليهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6‏]‏ الآية، فتكون الجملة تذييلاً لتنهية القصة، ولكن موقع الواو في أول الجملة يرجح الوجه الأول، وكأن صاحب «المفتاح» يأبى اعتبار الاستئناف من معاني الواو‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏فهم لا يسمعون‏}‏ معطوفة بالفاء على ‏{‏نطبع‏}‏ متفرعاً عليه، والمراد بالسماع فهم مغزى المسموعات لا استكاك الآذان، بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏ونطبع على قلوبهم‏}‏‏.‏ وتقدم معنى الطبع عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ طبع الله عليها بكفرهم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏155‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 102‏]‏

‏{‏تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ‏(‏101‏)‏ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

لما تكرر ذكر القرى التي كذب أهلها رسل الله بالتعيين وبالتعميم، صارت للسامعين كالحاضرة المشاهدة الصالحة لأن يشار إليها، فجاء اسم الإشارة لزيادة إحضارها في أذهان السامعين من قوم محمد صلى الله عليه وسلم ليعتبروا حالهم بحال أهل القرى، فيروا أنهم سواء فيفيئوا إلى الحق‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏تلك القرى‏}‏ مستأنفة استئناف الفذلكة لما قبلها من القصص من قوله‏:‏ ‏{‏لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 59‏]‏ ثم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا في قرية من نبيء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 94‏]‏ الآية‏.‏

و ‏{‏القرى‏}‏ يجوز أن يكون خبراً عن اسم الإشارة لأن استحضار القرى في الذهن بحيث صارت كالمشاهد للسامع، فكانت الإشارة إليها إشارة عبرة بحالها، وذلك مفيد للمقصود من الإخبار عنها باسمها لمن لا يجهل الخبر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا ما كنزتم لأنفسكم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 35‏]‏ أي هذا الذي تشاهدونه تُكْوَون به هو كنزكم، وهم قد علموا أنه كنزهم، وإنما أريد من الإخبار بأنه كنزهم إظهارُ خطإ فعلهم، ويجوز أن يكون القرى بياناً لاسم الإشارة‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏نقص عليك من أنبائها‏}‏ إما حال من ‏{‏القرى‏}‏ على الوجه الأول‏.‏

وفائدة هذه الحال الامتنان بذكر قَصصها، والاستدلال على نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم إذ علمه الله من علم الأولين ما لم يسبق له علمه، والوعدُ بالزيادة من ذلك، لما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏نقص‏}‏ من التجدد والاستمرار، والتعريضُ بالمعرضين عن الإتعاظ بأخبارها‏.‏

وإمّا خبر عن اسم الإشارة على الوجه الثاني في محمل قوله‏:‏ ‏{‏القرى‏}‏‏.‏

و ‏(‏منْ‏)‏ تبعيضية لأن لها أنباء غير ما ذكر هنا مما ذكر بعضه في آيات أخرى وطوى ذكر بعضه لعدم الحاجة إليه في التبليغ‏.‏

والأنباء‏:‏ الأخبار، وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد جاءك من نبإ المرسلين‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏34‏)‏‏.‏

والمراد بالقرى وضمير أنبائها‏:‏ أهلها، كما دل عليه الضمير في قوله‏:‏ رسلهم‏.‏

وجملة‏:‏ ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏تلك القرى‏}‏ لمناسبة ما في كلتا الجملتين من قصد التنظير بحال المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم

وجمع «البينات» يشير إلى تكرر البينات مع كل رسول، والبينات‏:‏ الدلائل الدالة على الصدق وقد تقدمت عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد جاءتكم بينة من ربكم‏}‏ في قصة ثمود في هذه السورة ‏(‏73‏)‏‏.‏

‏(‏والفاء‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏فما كانوا ليؤمنوا‏}‏ لترتيب الإخبار بانتفاء إيمانهم عن الإخبار بمجيء الرسل إليهم بما من شأنه أن يحملهم على الإيمان‏.‏

وصيغة ‏{‏ما كانوا ليؤمنوا‏}‏ تفيد مبالغة النفي بلام الجحود الدالة على أن حصول الإيمان كان منافياً لحالهم من التصلب في الكفر‏.‏ وقد تقدم وجه دلالة لام الجحود على مبالغة النفي عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب‏}‏ الآية في سورة آل عمران ‏(‏79‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ فاستمر عدم إيمانهم وتمكّن منهم الكفر في حين كان الشأن أن يقلعوا عنه‏.‏

وما كذبوا‏}‏ موصول وصلته وحُذف العائد المجرور على طريقة حذف أمثاله إذا جر الموصول بمثل الحرف المحذوف، ولا يشترط اتحاد متعلقي الحرفين على ما ذهب إليه المحققون منهم الرضي كما في هذه الآية‏.‏

وما صْدَقُ ‏(‏ما‏)‏ الموصولة‏:‏ ما يدل عليه ‏{‏كذبوا‏}‏، أي‏:‏ فما كانوا ليؤمنوا بشيء كذبوا به من قبل مما دُعوا إلى الإيمان به من التوحيد والبعث‏.‏ وشأن ‏(‏ما‏)‏ الموصولة أن يراد بها غير العاقل، فلا يكون ما صْدقُ ‏(‏ما‏)‏ هنا الرسل، بل ما جاءت به الرسل، فلذلك كان فعل ‏{‏كذبوا‏}‏ هنا مقدراً متعلّقهُ لفظُ ‏(‏به‏)‏ كما هو الفرق بين كذّبه وكذّب به، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فكذّبوه فأنجيناه‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 64‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وكذّب به قومُك وهو الحق‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 66‏]‏ وحُذف المتعلق هنا إيجازاً، لأنه قد سبق ذكر تكذيب أهل القرى، ابتداء من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا في قرية من بنيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 94‏]‏ وقد سبق في ذلك قوله‏:‏ ‏{‏ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 96‏]‏ ولهذا لم يحذف متعلق فعل ‏{‏كذبوا‏}‏ في نظير هذه الآية من سورة يونس‏.‏

والمعنى‏:‏ ما أفادتهم البينات أن يؤمنوا بشيء كان بَدَرَ منهم التكذيب به في ابتداء الدعوة، فالمضاف المحذوف الذي دل عليه بناء ‏{‏قبلُ‏}‏ على الضم تقديره‏:‏ من قبللِ مجيء البينات‏.‏

وأسند نفي الإيمان إلى ضمير جميع أهل القرى باعتبار الغالب، وهو استعمال كثير، وسيُخرج المؤمنون منهم بقوله‏:‏ ‏{‏وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين‏}‏‏.‏

ومعنى قولهن‏:‏ ‏{‏كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين‏}‏ مثلَ ذلك الطبع العجيب المستفاد من حكاية استمرارهم على الكفر، والمؤذن به فعل ‏{‏يطبع‏}‏، وقد تقدم نظائره غير مرة، منها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏143‏)‏‏.‏

وتقدم معنى الطبع عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل طبع الله عليها بكفرهم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏155‏)‏‏.‏

وإظهار المسند إليه في جملة يطبع الله‏}‏ دون الإضمار‏:‏ لما في إسناد الطبع إلى الاسم العلم من صراحة التنبيه على أنه طبع رهيب لا يغادر للهدى منفذاً إلى قلوبهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا خلق الله‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 11‏]‏ دون أن يقول‏:‏ هذا خلقي، ولهذا اختير له الفعل المضارع الدال على استمرار الختم وتجدده‏.‏

والقلوب‏:‏ العقول، والقلب، في لسان العرب‏:‏ من أسماء العقل، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ختم الله على قلوبهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏7‏)‏‏.‏

والتعريف في الكافرين‏}‏ تعريف الجنس، مفيد للاستغراق، أي‏:‏ جميع الكافرين ممن ذكر وغيرهم‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات‏}‏ إلى آخر الآية، تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم بأن ما لقيه من قومه هو سنّة الرسل السابقين، وأن ذلك ليس لتقصير منه، ولا لضعف آياته، ولكنه للختم على قلوب كثير من قومه‏.‏

وعطفت جملة‏:‏ ‏{‏وما وجدنا لأكثرهم من عهد‏}‏ على جملة‏:‏ ‏{‏ولقد جاءتهم رسلهم‏}‏ وما رتب عليها من قوله‏:‏ ‏{‏فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل‏}‏ تنبيهاً على رسوخ الكفر من نفوسهم بحيث لم يقلعه منهم لا ما شاهدوه من البينات، ولا ما وضعه الله في فطرة الإنسان من اعتقاد وجود إله واحد وتصديق الرسل الداعين إليه، ولا الوفاءُ بما عاهدوا عليه الرسل عند الدعوة‏:‏ إنهم إن أتوهم بالبينات يؤمنون بها‏.‏

والوجدان في الموضعين مجاز في العلم، فصار من أفعال القلوب، ونفيه في الأول كناية عن انتفاء العهد بالمعنى المقصود، أي‏:‏ وفائه، لأنه لو كان موجوداً لعَلمه مَنْ شأنه أن يعلمَه ويبحث عنه عند طلب الوفاء به، لا سيما والمتكلم هو الذي لا تخفى عليه خافية كقوله‏:‏ ‏{‏قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏ الآية، أي لا محرم إلاّ ما ذكر، فمعنى ‏{‏وما وجدنا لأكثرهم من عهد‏}‏ ما لأكثرهم عهد‏.‏

والعهدُ‏:‏ الالتزامُ والوعدُ المؤكّدُ وقوعُه، والمُوَثّقُ بما يمنع من إخلافه‏:‏ من يمين، أو ضمان، أو خشية مسبة، وهو مشتق من عَهِد الشيء بمعنى عَرفه، لأن الوعد المؤكد يعرفه ملتزمه ويحرص أن لا ينساه‏.‏

ويسمى إيقاع ما التزمه الملتزم من عهده الوفاءَ بالعهد، فالعهد هنا يجوز أن يراد به الوعد الذي حققَه الأممُ لرسلهم مثل قولهم‏:‏ فأننا بآية إن كنت من الصادقين، فإن معنى ذلك‏:‏ إن أتيتنا بآية صدقناك‏.‏ ويجوز أن يراد به وعد وثقه أسلاف الأمم من عهد آدم أن لا يعبدوا إلاّ الله وهو المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألَمْ أعْهَدْ إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 60‏]‏ الآية، فكان لازماً لأعقابهم‏.‏

ويجوز أن يراد به ما وعَدت به أرواح البشر خالقها في الأزل المحكيُ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذْ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريّاتهم وأشهدهم على أنفسهم ألسّتُ بربّكم قالوا بلى شهدنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ الآية‏.‏ وهو عبارة عن خلق الله فطرة البشرية معتقدة وجود خالقها ووحدانيتَه، ثم حرفتها النزعات الوثنية والضلالات الشيطانية‏.‏

ووقوع اسم هذا الجنس في سياق النفي يقتضي انتفاءه بجميع المعاني الصادق هو عليها‏.‏

ومعنى انتفاء وجدانه‏.‏ هو انتفاء الوفاء به، لأن أصل الوعد ثابت موجود، ولكنه لما كان تحققه لا يظهر إلاّ في المستقبل، وهو الوفاء، جعل انتفاء الوفاء بمنزلة انتفاء الوقوع، والمعنى على تقدير مضاف، أي‏:‏ ما وجدنا لأكثرهم من وفاء عهد‏.‏

وإنما عدّي عدم وجدان الوفاء بالعهد في ‏{‏أكثرهم‏}‏ للإشارة إلى إخراج مؤمني كل أمة من هذا الذم، والمراد بأكثرهم، أكثر كل أمة منهم، لا أمة واحدة قليلة من بين جميع الأمم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وإنْ وجدْنا أكثرهم لفَاسقين‏}‏ إخبار بأن عدم الوفاء بالعهد من أكثرهم كان منهم عن عمد ونكث، ولكون ذلك معنى زائداً على ما في الجملة التي قبلها عطفت ولم تجعل تأكيداً للتي قبلها أو بياناً، لأن الفسق هو عصيان الأمر، وذلك أنهم كذبوا فيما وعدوا عن قصد للكفر‏.‏

و ‏(‏إنْ‏)‏ مخففة من الثقيلة، وبعدها مبتدأ محذوف هو ضمير الشأن، والجملة خبر عنه تنويهاً بشأن هذا الخبر ليعلمه السامعون‏.‏

واللام الداخلة في خبر ‏{‏وجدنا‏}‏ لام ابتداء، باعتبار كون ذلك الخبر خبراً من جملة هي خبر عن الاسم الواقع بعد ‏(‏إنْ‏)‏، وجلبت اللام للتفرقة بين المخففة والنافية‏.‏

وقد تقدم نظير هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏‏.‏

وأسند حكم النكث إلى أكثر أهل القرى، تبيناً لكون ضمير ‏{‏فما كانوا ليؤمنوا‏}‏ جرى على التغليب، ولعل نكتة هذا التصريح في خصوص هذا الحكم أنه حكم مذمة ومسبة، فناسبت محاشاة من لم تلتصق به تلك المسبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

انتقال من أخبار الرسالات السابقة إلى أخبار رسالة عظيمة لأمة باقية إلى وقت نزول القرآن فضّلها الله بفضله فلم تُوَف حق الشكر وتلقت رسولها بين طاعة وإباء وانقياد ونفار، فلم يعاملها الله بالاستيصال ولكنه أراها جزاء مختلف أَعمالها، جزاء وفاقاً، إنْ خيراً فخير، وإن شراً فشر‏.‏

وخصت بالتفضيل قصة إرسال موسى لِما تحتوي عليه من الحوادث العظيمة، والأنباء القيمة، ولأن رسالته جاءت بأعظم شريعة بين يدي شريعة الإسلام، وأرسل رسولها هادياً وشارعاً تمهيداً لشريعة تأتي لأمة أعظم منها تكون بعدها، ولأن حال المرسل إليهم أشبه بحال من أرسل إليهم محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا فريقيْن كثيريْن اتَبع أحدهم موسى وكفَر به الآخر، كما اتّبع محمداً عليه السلام جمع عظيم وكفر به فريق كثير، فأهلك الله من كفر ونصر من آمن‏.‏

وقد دلت ‏{‏ثم‏}‏ على المُهلة‏:‏ لأن موسى عليه السلام بعث بعد شعيب بزمن طويل، فإنه لما توجه إلى مدين حين خروجه من مصر، رجَا الله أن يهديَه فوجد شعيباً، وكان اتصاله به ومصاهرته تدريجاً له في سلم قبول الرسالة عن الله تعالى فالمهلة باعتبار مجموع الأمم المحكي عنها قبل، فإن منها ما بينه وبين موسى قرونَ مثل قوم نوح، ومثل عاد وثمود، وقوم لوط، فالمهلة التي دلت عليها ‏{‏ثم‏}‏ متفاوتة المقدار، مع ما يقتضيه عطف الجملة بحرف ‏{‏ثم‏}‏ من التراخي الرتبي وهو ملازم لها إذا عطفت بها الجمل‏.‏ فحرف ‏(‏ثم‏)‏ هنا مستعمل في معنيي المهلة الحقيقي والمجازي‏.‏

والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏من بعدهم‏}‏ يعود إلى القرى، باعتبار أهلها، كما عادت عليهم الضمائر في قوله ‏{‏ولقد جاءتهم رسلهم‏}‏ الآيتين ‏[‏الأعراف‏:‏ 101‏]‏‏.‏

والباء في ‏{‏بآياتنا‏}‏ للملابسة، وهي في موضع الحال من موسى، أي‏:‏ مصحوباً بآيات منا، والآيات‏:‏ الدلائل على صدق الرسول، وهي المعجزات، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 106، 107‏]‏‏.‏

و ‏{‏فرعون‏}‏ علَم جنس لملك مصر في القديم، أي‏:‏ قبل أن يملكها اليونان، وهو اسم من لغة القبط‏.‏ قيل‏:‏ أصله في القبطية ‏(‏فاراه‏)‏ ولعل الهاء فيه مبدلة عن العين فإن ‏(‏رع‏)‏ اسم الشمس فمعنى ‏(‏فاراه‏)‏ نور الشمس لأنهم كانوا يعبدون الشمس فجعلوا ملك مصر بمنزلة نور الشمس، لأنه يصلح الناس، نقل هذا الاسم عنهم في كتب اليهود وانتقل عنهم إلى العربية، ولعله مما أدخله الإسلام، وهذا الاسم نظير ‏(‏كسرى‏)‏ لملك ملوك الفرس القدماء، و‏(‏قيصر‏)‏ لملك الروم، و‏(‏نمروذ‏)‏ لملك كنعان، و‏(‏النجاشي‏)‏ لملك الحبش، و‏(‏تُبَع‏)‏ لملك ملوك اليمن، و‏(‏خان‏)‏ لملك الترك‏.‏

واسم فرعون الذي أرسل موسى إليه‏:‏ منفطاح الثاني، أحد ملوك العائلة التاسعة عشرة من العائلات التي ملكت مصر، على ترتيب المؤرخين من الإفرنج وذلك في سنة 1491 قبل ميلاد المسيح‏.‏

والملأ‏:‏ الجماعة من علية القوم، وتقدم قريباً، وهم وزراء فرعون وسادة أهل مصر من الكهنة وقواد الجند، وإنما خص فرعون وملأه لأنهم أهل الحل والعقد الذين يأذنون في سراح بني إسرائيل، فإن موسى بعثه الله إلى بني إسرائيل ليحررهم من الرق الذي كانوا فيه بمصر، ولما كان خروجهم من مصر متوقفاً على أمر فرعون وملئه بعثه الله إليهم ليعلموا أن الله أرسل موسى بذلك، وفي ضمن ذلك تحصل دعوة فرعون للهُدى، لأن كل نبيء يُعلن التوحيد ويأمر بالهدى، وإن كان المأمور من غير المبعوث إليهم حرصاً على الهُدى إلاّ أنَّه لا يقيم فيهم ولا يكرر ذلك، والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فظلموا‏}‏ للتعقيب أي فبادروا بالتكذيب‏.‏

والظلم‏:‏ الاعتداء على حق الغير، فيجوز أن يكون ‏{‏فظلموا‏}‏ هنا على أصل وضعه وتكون الباء للسببية، وحذف مفعول ‏(‏ظلموا‏)‏ لقصد العموم، والمعنى‏:‏ فظلموا كل من له حق في الانتفاع بالآيات، أي منعوا الناس من التصديق بها وآذوا الذين آمنوا بموسى لَمّا رأوا آياته، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قال فرعون أآمنتم به قبل أن آذن لكم إلى قوله لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 123، 124‏]‏ الآية‏.‏

وظلموا أنفسهم إذ كابروا ولم يُؤمنوا، فكان الظلم بسبب الآيات أي بسبب الاعتراف بها‏.‏

ويجوز أن يكون ضمّن ‏{‏ظلموا‏}‏ معنى كفروا فعدّي إلى الآيات بالباء، والتقدير‏:‏ فظلموا إذ كفروا بها، لأن الكفر بالآيات ظلم حقيقة، إذ الظلم الاعتداء على الحق فمن كفر بالدلائل الواضحة المسماة ‏(‏آيات‏)‏ فقد اعتدى على حق التأمل والنظر‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فانظر‏}‏ لتفريع الأمر على هذا الإخبار، أي‏:‏ لا تتريّث عند سماع خبر كفرهم عن أن تبادر بالتدبّر فيما سنقص عليك من عاقبتهم‏.‏

والمنظور هو عاقبتهم التي دل عليها قوله‏:‏ ‏{‏فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 136‏]‏ وهذا النظر نظر العقل وهو الفكر المُؤَدِّي إلى العلم فهو من أفعال القلوب‏.‏

والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمراد هو ومن يَبْلغْه، أو المخاطب غيرُ معين وهو كل من يتأتى منه النظر والاعتبار عند سماع هذه الآيات، فالتقدير‏:‏ فانظر أيها الناظر، وهذا استعمال شائع في كل كلام موجه لغير معين‏.‏

ولما كان ما آل إليه أمر فرعون وملئه حالة عجيبة، عبر عنه ب ‏(‏كيف‏)‏ الموضوعة للسؤال عن الحال، والاستفهام المستفاد من ‏(‏كيف‏)‏ يقتضي تقدير شيء، أي‏:‏ انظر عاقبة المفسدين التي يسأل عنها بكيف‏.‏

وعُلّق فعل النظر عن العمل لمجيء الاستفهام بعده، فصار التقدير‏:‏ فانظر، ثم افتتح كلاماً بجملة ‏{‏كيف كان عاقبة المفسدين‏}‏، والتقدير في أمثاله أن يقدر‏:‏ فانظر جوابَ كيفَ كان عاقبة المفسدين‏.‏

والعاقبة‏:‏ آخر الأمر ونهايته، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏11‏)‏‏.‏

والمراد بالمفسدين‏:‏ فرعون وملأه، فهو من الإظهار في مقام الإضمار تنبيهاً على أنهم أصيبوا بسوء العاقبة لكفرهم وفسادهم، والكفر أعظم الفساد لأنه فساد القلب ينشأ عنه فساد الأعمال، وفي الحديث‏:‏ «ألا وإن في الجسد مُضْغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ألا وهي القلب»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104- 108‏]‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏104‏)‏ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏105‏)‏ قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏106‏)‏ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ‏(‏107‏)‏ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

عُطف قول موسى بالواو، ولم يفصل عمّا قبله، مع أن جملة هذا القول بمنزلة البيان لجملة ‏{‏بعثنا من بعدهم موسى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 103‏]‏، لأنه لما كان قوله‏:‏ ‏{‏بآياتنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 103‏]‏ حالاً من موسى فقد فهم أن المقصود تنظير حال الذين أرسل إليهم موسى بحال الأمم التي مضى الإخبار عنها في المكابرة على التكذيب، مع ظهور آيات الصدق، ليتم بذلك تشابه حال الماضين مع حال الحاضرين المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم فجُعلت حكايةُ محاورة موسى مع فرعون وملئه خَبَراً مستقلاً لأنه لم يُحك فيه قوله المقارن لإظهار الآية بل ذكرت الآية من قبلُ، بخلاف ما حكي في القصص التي قبلَها فإن حكاية أقوال الرسل كانت قبل ذكر الآية، ولأن القصة هنا قد حكي جميعها باختصار بجُمَل ‏{‏بَعَثْنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 103‏]‏، ‏{‏فظلموا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 103‏]‏، ‏{‏فانظر‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 103‏]‏، فصارت جملة‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ تفصيلاً لبعض ما تقدم، فلا تكون مفصولة لأن الفصل إنما يكون بين جملتين، لا بين جملة وبين عدة جمل أخرى‏.‏

والظاهر أن خطاب موسى فرعونَ بقوله‏:‏ ‏{‏يا فرعون‏}‏ خطاب إكرام لأنه ناداه بالاسم الدال على الملك والسلطان بحسب متعارف أمته فليس هو بترفع عليه لأن الله تعالى قال له ولهارون ‏{‏فقولا له قولاً لينّاً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 44‏]‏، والظاهر أيضاً أن قول موسى هذا هو أول ما خاطب به فرعون كما دلت عليه سورة طه‏.‏

وصوغ حكاية كلام موسى بصيغة التأكيد بحرف ‏(‏إن‏)‏ لأن المخاطب مظنة الإنكار أو التردد القوي في صحة الخبر‏.‏

واختيار صفة ‏{‏رب العالمين‏}‏ في الإعلام بالمرسِل إبطال لاعتقاد فرعون أنه رب مصر وأهلها فإنه قال لهم‏:‏ ‏{‏أنا ربكم الأعلى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏ فلما وصف موسى مُرْسلَه بأنه رب العالمين شمل فرعون وأهل مملكته فتبطل دعوى فرعون أنه إلاه مصر بطريق اللزوم، ودخل في ذلك جميع البلاد والعباد الذين لم يكن فرعون يدعي أنه إلههم مثل الفرس والأشوريين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حقيق عَليّ‏}‏ قرأه نافع بالياء في آخر ‏(‏علي‏)‏ فهي ياء المتكلم دخل عليها حرف ‏(‏على‏)‏ وتعدية حقيق بحرف ‏(‏على‏)‏ معروفة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فحق علينا قول ربنا‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 31‏]‏، ولأن حقيق بمعنى واجب فتعديته بحرف على واضحة، و‏{‏حقيقٌ‏}‏ خبر ثان عن ‏{‏إني‏}‏، فليس في ضمير المتكلم من قوله‏:‏ ‏(‏علي‏)‏ على قراءة نافع التفات، بخلاف ما لو جعل قوله‏:‏ ‏{‏حقيق‏}‏ صفة ل ‏{‏رسول‏}‏ فحينئذٍ يكون مقتضى الظاهر الإتيان بضمير الغائب، فيقول‏:‏ حقيق عليه، فيكون العدول إلى التكلم التفاتاً، وفاعل ‏{‏حقيق‏}‏ هو المصدر المأخوذ من قوله‏:‏ ‏{‏أنْ لا أقولَ‏}‏ أي‏:‏ حقيق علي عدم قولي على الله غيرَ الحق‏.‏

وحقيق فعيل بمعنى فاعل، وهو مشتق من ‏(‏حَق‏)‏ بمعنى وجب وثبت أي‏:‏ متعين وواجب علي قول الحق على الله، و‏(‏على‏)‏ الأولى للاستعلاء المجازي و‏(‏على‏)‏ الثانية بمعنى عن، وقرأ الجمهور ‏(‏علىَ‏)‏ بألف بعد اللام، وهي ‏(‏على‏)‏ الجارة‏.‏

ففي تعلق ‏(‏على‏)‏ ومجرورها الظاهر ب ‏{‏حقيق‏}‏ تأويلٌ بوجوه أحسنها قول الفراء، وأبي علي الفارسي‏:‏ أن ‏(‏على‏)‏ هنا بمعنى الباء وأن ‏{‏حقيق‏}‏ فعيل بمعنى مفعول‏:‏ أي محقوق بأن لا أقول على الله إلاّ الحق، أي‏:‏ مجعول قولُ الحق حقّاً علي، كقَول الأعشى‏:‏ ‏"‏

لَمَحْقُوقَةٌ أنْ تَسْتَجيبيِ لقَوْلِهِ ‏"‏

أي محقوقة بأن تستجيبي، وقول سعيد بن زيد «ولوْ أنّ أُحُداً انْقضّ لِما صنعتم بعُثْمانَ لكان محقوقاً بأن ينقضّ»‏.‏

ومنها ما قال صاحب «الكشاف» «والأوْجهُ الأدْخلُ في نُكت القرآن أن يُغْرِقَ موسى في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام فيقول‏:‏ أنا حقيق على قوللِ الحق، أي‏:‏ أنا واجب على قول الحق أن أكون أنا قائله والقائمَ به»‏.‏ قال شارحوه‏:‏ فالمعنى لو كان قول الحق شخصاً عاقلاً لكنتُ أنا واجباً عليه‏.‏ أن لا يصْدُرَ إلاّ عنّي وأن أكون قائله، وهو على هذا استعارة بالكناية‏:‏ شُبه قول الحق بالعقلاء الذين يختارون مواردهم ومصادرهم‏.‏ ورُمز إلى المشبه به بما هو من رَوادفه، وهو كون ما يناسبه متعيناً عليه‏.‏

ومنها ما قيل‏:‏ ضمن ‏{‏حقيق‏}‏ معنى حريص فعُدّي بعلى إشارة إلى ذلك التضمين وأحسن من هذا أن يضمن ‏{‏حقيق‏}‏ معنى مكين وتكون ‏(‏على‏)‏ استعارة للاستعلاء المجازي‏.‏

وجملة ‏{‏قد جئتمكم ببينة‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً، لأن مقام الإنكار مما يثير سؤال سائل أن يقول هذه دعوى غريبة تحتاج إلى بينة‏.‏

والبينة‏:‏ الحجة‏.‏ وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إني على بينة من ربي‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 57‏]‏‏.‏ والحجة هنا يجوز أن يكون المراد بها البراهين العقلية على صدق ما جاء به موسى من التوحيد والهُدى، ويجوز أن تكون المعجزة الدالةَ على صدق الرسول‏.‏ فعلى الوجه الأول تكون الباء في قوله‏:‏ ‏{‏ببينة‏}‏ لتعدية فعل المجيء، وعلى الوجه الثاني تكون الباء للملابسة، والمراد بالملابسة ملابسة التمكن من إظهار المعجزة التي أظهرها الله له كما في سورة ‏[‏طه‏:‏ 17‏]‏ ‏{‏وما تلك بيمينك يا موسى‏}‏ ويحتمل المعنى الأعم الشامل للنوعين على ما يحتمله كلام موسى المترجم عنه هنا‏.‏

والفاء في قوله فأرْسلْ‏}‏ لتفريع طلب تسريح بني إسرائيل على تحقق الرسالة عن رب العالمين، والاستعداد لإظهار البينة على ذلك، وقد بنى موسى كلامه على ما يثق به من صدق دعوته مع الاستعداد للتبيين على ذلك الصدق بالبراهين أو المعجزة إن طلبها فرعون لأن شأن الرسل أن لا يبتدئوا بإظهار المعجزات صوناً لمقام الرسالة عن تعريضه للتكذيب، كما بيناه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليُؤمنن بها‏}‏ الآيات في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 109‏]‏‏.‏

والإرسال‏:‏ الإطلاق والتخلية، كقولهم‏:‏ أرسلها العراك، وهو هنا مجاز لغوي في الإذن لبني إسرائيل بالخروج، المطلوب من فرعون‏.‏

وتقييده ب ‏{‏معي‏}‏ لأن المقصود من إخراجهم من مصر أن يكونوا مع الرسول ليرشدهم ويدبر شؤونهم‏.‏

وقول فرعون‏:‏ ‏{‏إن كنت جئت برية فأت بها‏}‏ مُتعين لأن يكون معناه‏:‏ إن كنت جئت بمعجزة، فإن أكثر موارد الآية في القرآن مراد فيه المعجزة، وأكثر موارد البينة مراد فيه الحجة، فالمراد بالبينة في قول موسى ‏{‏قد جئتكم ببينة من ربكم‏}‏ الحجة على إثبات الإلهية وعلى حقية ما جاء به من إرشاد لقومه، فكان فرعون غير مقتنع ببرهان العقل أو قاصراً عن النظر فيه فانتقل إلى طلب خارق العادة، فالمعنى‏:‏ إن كنت جئتنا متمكناً من إظهار المعجزات، لأن فرعون قال ذلك قبل أن يظهر موسى عليه السلام معجزته، فالباء في قوله‏:‏ ‏{‏بآية‏}‏ للمعية التقديرية، أي‏:‏ متمكناً من آية، أو الباء للملابسة، والملابسة معناها واسع، أي‏:‏ لك تمكين من إظهار آية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فأت بها‏}‏ استعمل الإتيان في الإظهار مجازاً مرسلاً، فالباء في قوله‏:‏ ‏{‏بها‏}‏ لتعدية فعل الإتيان، وبذلك يتضح ارتباط الجزاء بالشرط، لأن الإتيان بالآية المذكورة في الجزاء هو غير المجيء بالآية المذكورة في الشرط، أي‏:‏ إن كنت جئت متمكناً من إظهار الآية فأظهر هذه الآية‏.‏

والإلقاء‏:‏ الرمي على الأرض أو في الماء أو نحو ذلك، أي‏:‏ فرمى عصاه من يده‏.‏

و ‏(‏إذا‏)‏ للمفاجأة وهي حدوث الحادث عن غير ترقب‏.‏

والثعبان‏:‏ حية عظيمة، و‏{‏مبين‏}‏ اسم فاعل من أبان القاصر المرادف لبان، أي ظهر، أي‏:‏ الظاهر الذي لا شك فيه ولا تخيل‏.‏

ونزع‏:‏ أزال اتصال شيء عن شيء، ومنه نزع ثوبه، والمعنى هنا أنه أخرج يده من جيب قميصه بعد أن أدخلها في جيبه كما في سورة النمل وسورة القصص فلما أخرجها صارت بيضاء، أي بياضاً من النور‏.‏

وقد دل على هذا البياض قوله‏:‏ ‏{‏للناظرين‏}‏، أي بياضاً يراه الناظرون رؤية تعجب من بياضها‏.‏ فالمقصود من ذكر قوله‏:‏ ‏{‏للناظرين‏}‏ تتميم معنى البياض‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏للناظرين‏}‏ لم يعرج المفسرون على بيان معناها وموقعها سوى أن صاحب «الكشاف» قال‏:‏ «يتعلق للناظرين ببيضاء» دون أن يبين نوع التعلق ولا معنى اللام، وسكت عليه «شراحه» والبيضاوي، وظاهر قوله يتعلق أنه ظرف لغو تعلق ببيضاء فلعله لما في بيضاء من معنى الفعل كأنه قيل‏:‏ ابيضّت للناظرين كما يتعلق المجرور بالمشتق فتعين أن يكون معنى اللام هو ما سماه ابن مالك بمعنى التعدية وهو يريد به تعدية خاصة ‏(‏لا مطلقَ التعدية أي تعدية الفعل القاصر إلى ما لا يتعدى له بأصل وضعه لأن ذلك حاصل في جميع حروف الجر، فلا شك أنه أراد تعدية خاصة لم يبين حقيقتها‏.‏ وقد مثل لها في «شرح الكافية» بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهب لي من لدنك ولياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 5‏]‏ وجعل في «شرح التسهيل» هذا المثال مثالاً لمعنى شبه الملك، واختار ابن هشام أن يمثل للتعدية بنحو ما أضرب زيداً لعمرو‏.‏

ولم يفصحوا عن هذه التعدية الخاصة باللام، ويظهر لي أنها عمل لفظي محض، أي لا يفيد معنى جزئياً كمعاني الحروف، فتحصّل أنهم في ارتباك في تحقيق معنى التعدية، وعندي أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بيضاء للناظرين‏}‏ أحسن ما يمثل به لكون اللام للتعدية وأن نفسر هذا المعنى بأنه تقريب المتعلّق بكسر اللام لمتعلّق بفتح اللام تقريباً لا يجعله في معنى المفعول به‏.‏

وإن شئت إرجاع معنى التعدية إلى أصل من المعاني المشهورة للام، فالظاهر أنها من فروع معنى شبه الملك كما اقتضاه جعل ابن مالك المثال الذي مثل به للتعدية مثالاً لشبه الملك‏.‏

وأقرب من ذلك أن تكون اللام بمعنى ‏(‏عند‏)‏ ويكون مفاد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بيضاء للناظرين‏}‏ أنها بيضاء بياضاً مستقراً في أنظار الناظرين ويكون الظرف مستقراً يجعل حالاً من ضمير يده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 112‏]‏

‏{‏قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ‏(‏109‏)‏ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ‏(‏110‏)‏ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ‏(‏111‏)‏ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ‏(‏112‏)‏‏}‏

جرت جملة‏:‏ ‏{‏قال الملأ‏}‏ على طريقة الفصل لأنها جرت في طريق المحاورة الجارية بين موسى وبين فرعون وملئه فإنه حوار واحد‏.‏

وتقدم الكلام على الملإِ آنفاً في القصص الماضية، فملأ قوم فرعون هم سادتهم وهم أهل مجلس فرعون ومشورته، وقد كانت دعوة موسى أول الأمر قاصرة على فرعون في مجلسه فلم يكن بمرأى ومسمع من العامة لأن الله تعالى قال في آية أخرى ‏{‏اذهبا إلى فرعون إنه طغى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 43‏]‏ وقال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏إلى فرعون وملائه‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 103‏]‏ وإنما أشهرت دعوته في المرة الآتية بعد اجتماع السحرة‏.‏

وإنما قالوا هذا الكلام على وجه الشورى مع فرعون واستنباط الاعتذار لأنفسهم عن قيام حجة موسى في وجوههم فاعتلوا لأنفسهم بعضهم لبعض بأن موسى إنما هو ساحر عليم بالسحر أظهر لهم ما لا عهد لهم بمثله من أعمال السحرة، وهذا القول قد أعرب عن رأي جميع أهل مجلس فرعون، ففرعون كان مشاركاً لهم في هذا لأن القرآن حكى عن فرعون في غير هذه السورة أنه قال للملإ حوله ‏{‏إن هذا لساحر عليم‏}‏، وهذه المعذرة قد انتحلوها وتواطأوا عليها تبعوا فيها ملكهم أو تبعهم فيها، فكل واحد من أهل ذلك المجلس قد وطَّن نفسه على هذا الاعتذار ولذلك فالخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون‏}‏ خطاب بعضهم لبعض وهو حاصل من طوائف ذلك الملأ لطوائفَ يرددونه بينهم ويقوله بعضهم لبعض‏.‏

ووجه استفادتهم أن موسى يريد إخراجهم من أرضهم، إما أنهم قاسوا ذلك عن قول موسى ‏{‏فأرسل معى بني إسرائيل‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 105‏]‏ بقاعدة ما جاز على المثل يجوز على المماثل، يعنون أنه ما أظهر إخراج بني إسرائيل إلاْ ذريعة لإخراج كل من يؤمن به ليتخدهم تبعاً ويقيم بهم ملكاً خارجَ مصر‏.‏ فزعموا أن تلك مكيدة من موسى لثلم ملك فرعون‏.‏

وإما أن يكون ملأ فرعون محتوياً على رجال من بني إسرائيل كانوا مقربين عند فرعون ومن أهل الرأي في المملكة، فهم المقصود بالخطاب، أي‏:‏ يريد إخراج قومكم من أرضكم التي استوطنتموها أربعة قرون وصارت لكم موطناً كما هي للمصريين، ومقصدهم من ذلك تذكيرهم بحب وطنهم، وتقريبهم من أنفسهم، وإنساؤهم ما كانوا يلقون من اضطهاد القبط واستذلالهم، شعوراً منهم بحراجة الموقف‏.‏

وإما إنهم علموا أنه إذا شاع في الأمة ظهور حجة موسى وعَجْز فرعون وملئه أدخل ذلك فتنة في عامة الأمة فآمنوا بموسى وأصبح هو الملك على مصر فأخرج فرعونَ وملأه منها‏.‏

ويجوز أن يكون الملأ خاطبوا بذلك فرعون‏.‏ فجرَتْ ضمائر الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏أن يخرجكم من أرضكم‏}‏ على صيغة الجمع تعظيماً للملك كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال رب ارجعون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 99‏]‏ وهذا استعمال مطرد‏.‏

والأمر حقيقته طلبُ الفعل، فمعنى ‏{‏فماذا تأمرون‏}‏ ماذا تطلبون أن نفعل، وقال جماعة من أهل اللغة‏:‏ غلب استعمال الأمر في الطلب الصادر من العلي إلى من دونه فإذا التزم هذا كان إطلاقه هنا على وجه التلطف مع المخاطبين، وأياً ما كان فالمقصود منه الطلب على وجه الإفتاء والاشتوار لأن أمرهم لا يتعين العمل به، فإذا كان المخاطب فرعون على ما تقدم، كان مراداً من الأمر الطلب الذي يجب امتثاله كما قال ملأ بلقيس‏:‏ ‏{‏فانظُرِي ماذا تأمرين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 33‏]‏‏.‏

والساحر فاعل السحر، وتقدم الكلام على السحر عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعلمون الناس السحر‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏102‏)‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏قالوا أرجه‏}‏ جواب القوم المستشَارين، فتجر يدها من حرف العطف لجريانها في طريق المحاورة، أي‏:‏ فأجاب بعض الملأ بإبداء رأي لفرعون فيما يتعين عليه اتخاذه‏.‏ ويجوز أن تكون جملة‏:‏ ‏{‏قالوا أرجه‏}‏ بدلاً من جملة‏:‏ ‏{‏قال الملأ من قوم فرعون‏}‏ بإعادة فعل القول وهو العامل في المبدل منه إذا كان فرعون هو المقصود بقولهم‏:‏ ‏{‏فماذا تأمرون‏}‏‏.‏

وفعل ‏{‏أرجه‏}‏ أمر من الإرجاء وهو التأخير‏.‏ قرأه نافع، وعاصم، والكسائي وأبو جعفر ‏{‏أرجه‏}‏ بجيم ثم هاء وأصله ‏(‏أرجئه‏)‏ بهمزة بعد الجيم فسُهلت الهمزة تخفيفاً، فصارت ياء ساكنة، وعوملت معاملة حرف العلة في حالة الأمر، وقرأه الباقون بالهمز ساكناً على الأصل ولهم في حركات هاء الغيبة وإشباعها وجوه مقررة في علم القراءات‏.‏

والمعنى‏:‏ أخّرْ المجادلة مع موسى إلى إحضار السحرة الذين يدافعون سحره، وحكى القرآن ذكر الأخ هنا للإشارة إلى أنه طوي ذكره في أول القصة، وقد ذكر في غير هذه القصة ابتداء‏.‏

وعدي فعل الإرسال ‏(‏بفي‏)‏ دون ‏(‏إلى‏)‏ لأن الفعل هنا غير مقصود تعديته إلى المرسل إليهم بل المقصود منه المرسَلون خاصة‏.‏ وهو المفعول الأول‏.‏ إذ المعنى‏:‏ وأرسل حاشرين في المدائن يأتوك بالسّحرة، فعُلم أنهم مرسلون للبحث والجلب‏.‏ لا للإبلاغ وهذا قريب من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأرسلنا فيهم رسولاً منهم‏}‏ في سورة المؤمنين ‏(‏32‏)‏، قال في ‏{‏الكشاف‏}‏ هنالك‏:‏ «لم يُعَد الفعل بقي مثلَ ما يُعدى بإلى، ولكن الأمة جعلت موضعاً للإرسال كما قال رؤبة‏:‏

أرسلتَ فيها مُصْعَبا ذَا إقحام ***

وقد جاء ‏(‏بَعَثَ‏)‏ على ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 51‏]‏، وقد تقدم آنفاً قريب منه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا في قرية من نبي‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 94‏]‏‏.‏

والمَدائن‏:‏ جمع مدينة، وهي بوزن فعيلة، مشتقة من مَدَن بالمكان إذا أقام ولعل ‏(‏مَدَن‏)‏ هو المشتق من المدينة لا العكس، وأيّاً ما كان فالأظهر أن ميم مدينة أصلية ولذلك جمعت على مدائن بالهمزة كما قالوا ‏(‏صَحَائف‏)‏ جمع صحيفة‏.‏ ولو كانت مَفْعَلة من دانه لقالوا في الجمع مداين بالياء مثل معايش‏.‏

ومداين مصر في ذلك الزمن كثيرة وسنذكر بعضها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأرسل فرعون في المدائن حاشرين‏}‏

في سورة الشعراء ‏(‏53‏)‏‏.‏ قيل أرادوا مدائن الصعيد وكانت مقر العلماء بالسحر‏.‏ والحاشرون الذين يحشرون الناس ويجمعونهم‏.‏

والشأن أن يكون ملأ فرعون عقلاءَ أهلَ سياسة، فعلموا أن أمر دعوة موسى لا يكاد يخفى‏.‏ وأن فرعون إنْ سجنه أو عاند، تحقق الناس أن حجة موسى غلبت، فصار ذلك ذريعة للشك في دين فرعون، فرأوا أن يلاينوا موسى، وطمعوا أن يوجد في سحَرة مصر من يدافع آيات موسى، فتكون الحجة عليه ظاهرة للناس‏.‏

وجَزْم ‏{‏يأتوك‏}‏ على جواب الأمر للدلالة على شدة اتصال السببية بين الإرسال والإتيان، فالتقدير‏:‏ إنْ تُرْسل يأتُوك، وقد قيل‏:‏ في مثله إنه مجزوم بلام الأمر محْذوفة، على أن الجملة بدل من ‏{‏أرسلْ‏}‏ بدلَ اشتمال‏.‏ أي‏:‏ أرسلهم آمراً لهم فليأتوك بكل ساحر عليم، وهذا الاستعمال كثير في كلام العرب مع فعل القول نحو‏:‏ ‏{‏قل لعباديَ الذين آمنوا يُقيموا الصلاة‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 31‏]‏ فكذلك ما كان فيه معنى القول كما هنا‏.‏

و ‏(‏كل‏)‏ مستعمل في معنى الكثرة، أي‏:‏ بجمع عظيم من السحرة يشبه أن يكون جميع ذلك النوع‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏بكل ساحر‏}‏ وقرأ جمزة، والكسائي، وخلف‏:‏ ‏{‏بكل سَحّار‏}‏، على المبالغة في معرفة السحر، فيكون وصف ‏{‏عليم‏}‏ تأكيداً لمعنى المبالغة لأن وصف ‏{‏عليم‏}‏ الذي هو من أمثلة المبالغة للدلالة على قوة المعرفة بالسحر، وحذف متعلق ‏{‏عليم‏}‏ لأنه صار بمنزلة أفعال السجايا‏.‏ والمقام يدل على أن المراد قوة علم السحر له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏113- 116‏]‏

‏{‏وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ‏(‏113‏)‏ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏114‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ‏(‏115‏)‏ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ‏(‏116‏)‏‏}‏

عطفت جملة ‏{‏وجاء السحرة‏}‏ على جملة‏:‏ ‏{‏قالوا أرجه وأخاه وأرْسلْ في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 111، 112‏]‏ وفي الكلام إيجاز حذف‏.‏ والتقدير‏:‏ قالوا أرجه وأخاه وأرسل الخ، فأرسل فرعون في المدائن حاشرين فحشروا وجاء السحرة من المدائن فحضروا عند فرعون‏.‏

فالتعريف في قوله‏:‏ ‏{‏السحرة‏}‏ تعريف العهد‏.‏ أي السحرة المذكورون، وكان حضور السحرة عند فرعون في اليوم الذي عينه موسى للقاء السحرة وهو المذكور في سورة طه‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏قالوا إن لنا لأجراً‏}‏ استئناف بياني بتقدير سؤال من يسأل‏:‏ ماذا صدر من السحرة حين مثُلوا بين يدي فرعون‏؟‏‏.‏

وقرأ نافع، وابن كثير، وحفص، وأبو جعفر ‏{‏إن لنا لأجراً‏}‏ ابتداء بحرف ‏(‏إن‏)‏ دون همزة استفهام، وقرأه الباقون بهمزة استفهام قبل ‏(‏إن‏)‏‏.‏

وعلى القراءتين فالمعنى على الاستفهام، كما هو ظاهر الجواب ب ‏{‏نعم‏}‏، وهمزة الاستفهام محذوفة تخفيفاً على القراءة الأولى، ويجوز أن يكون المعنى عليها أيضاً على الخبرية لأنهم وثقوا بحصول الأجر لهم، حتى صيروه في حيز المخبر به عن فرعون، ويكون جواب فرعون ب ‏{‏نعم‏}‏ تقريراً لما أخبروا به عنه‏.‏

وتنكير ‏{‏أجراً‏}‏ تنكير تعظيم بقرينة مقام المَلِك وعظم العمل، وضمير ‏{‏نحن‏}‏ تأكيد لضمير ‏{‏كنا‏}‏ إشعاراً بجدارتهم بالغلَب، وثقتهم بأنهم أعلم الناس بالسحر، فأكدوا ضميرهم لزيادة تقرير مدلوله، وليس هو بضمير فصل إذ لا يقصد إرادة القصر، لأن إخبارهم عن أنفسهم بالغالبين يغني عن القصر، إذ يتعين أن المغلوب في زعمهم هو موسى عليه السلام‏.‏

وقول فرعون ‏{‏نعم‏}‏ إجابة عما استفهموا، أو تقرير لما توسموا‏:‏ على الاحتمالين المذكورين في قوله‏:‏ ‏{‏إن لنا لأجراً‏}‏ آنفاً، فحرف ‏(‏نعم‏)‏ يقرر مضمون الكلام الذي يجاب به، فهو تصديق بعد الخبر، وإعلام بعد الاستفهام، بحصول الجانب المستفهم عنه، والمعنيان محتملان هنا على قراءة نافع ومن وافقه، وأما على قراءة غيرهم فيتعين المعنى الثاني‏.‏

وعُطف جملة‏:‏ ‏{‏إنكم لمن المقربين‏}‏ على ما تضمنه حرف الجواب إذ التقدير‏:‏ نعم لكم أجر وإنكم لمن المقربين، وليس هو من عطف التلقين‏:‏ لأن التلقين إنما يعتبر في كلامين من متكلميْن لا من متكلم واحد‏.‏

وفصلت جملة‏:‏ ‏{‏قالوا يا موسى‏}‏ لوقوعها في طريقة المحاورة بينهم وبين فرعون وموسى، لأن هؤلاء هم أهل الكلام في ذلك المجمع‏.‏

و ‏{‏إمّا‏}‏ حرف يدل على الترديد بين أحد شيئين أو أشياء، ولا عمل له ولا هو معمول، وما بعده يكون معمولاً للعامل الذي في الكلام‏.‏ ويَكون ‏(‏إما‏)‏ بمنزلة جزء كلمة مثل أل المعرفة، كقول تأبط شراً‏:‏

هُمَا خُطّتَا إما إسارٍ ومنّةٍ *** وإمّا دَممٍ والموتُ بالحر أجدر

وقوله‏:‏ ‏{‏أنْ تُلْقي وقوله‏:‏ أن نكون نحن الملقين‏}‏ يجوز كونهما في موضع رفع بالابتداء والخبر محذوف، أي إما إلقاؤك مقدم وإما كوننا ملقين مقدم، وقد دل على الخبر المقام لأنهم جاءوا لإلقاء آلات سحرهم، وزعموا أن موسى مثلهم‏.‏

وفي «الكشاف» في سورة طه، جَعَل ‏{‏إما أن تلقي‏}‏ خبر مبتدأ محذوف تقديره الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا، ولما كان الواقع لا يخلو عن أحد هذين الأمرين لم يكن المقصود بالخبر الفائدة لأنها ضرورية، فلا يحسن الإخبار بها مثل‏:‏ السماء فوقنا، فتعين أن يكون الكلام مستعملاً في معنى غير الإخبار، وذلك هو التخيير أي‏:‏ إِما أن تبتدئ بإلقاء آلات سحرك وإما أن نبتدئ، فاختر أنت أحد مرين ومن هنا جازَ جَعل المصدرين المنسبكين في محل نصب بفعل تخيير محذوف، كما قدره الفراء وجوزه في «الكشاف» في سورة طه، أي‏:‏ اختر أن تلقي أو كوننا الملقين، أي‏:‏ في الأولية، ابتدأ السحرة موسى بالتخيير في التقدم إظهاراً لثقتهم بمقدرتهم وإنهم الغالبون، سواء ابتدأ السحرة موسى بالأعمال أم كانوا هم المبتدئين، ووجه دلالة التخيير على ذلك أن التقدم في التخييلات والشعوذة أنجح للبادئ لأن بديهتها تمضي في النفوس وتستقر فيها، فتكون النفوس أشد تأثراً بها من تأثرها بما يأتي بعدها، ولعلهم مع ذلك أرادوا أن يسبروا مقدار ثقة موسى بمعرفته مما يبدو منه من استواء الأمرين عنده أو من الحرص على أن يكون هو المقدم، فإن لاستضعاف النفس تأثيراً عظيماً في استرهابَها وإبطال حيلتها، وقد جاءوا في جانبهم بكلام يسترهب موسى ويهول شأنهم في نفسه، إذ اعتنوا بما يدل على ذواتهم بزيادة تقرير الدلالة في نفس السامع المعبر عنها في حكاية كلامهم بتأكيد الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وإما أن نكون نحن الملقين‏}‏‏.‏

وبذلك تعلم أن المقام لا يصلح لاحتمال أنهم دلوا على رغبتهم في أن يُلقوا سحرهم قبل موسى، لأن ذلك ينافي إظهار استواء الأمرين عندهم، خلافاً لما في «الكشاف» وغيره، ولذلك كان في جواب موسى إياهم بقوله‏:‏ ‏{‏ألْقُوا‏}‏ استخفافٌ بأمرهم إذ مكّنهم من مباداة إظهار تخييلاتهم وسحرهم، لأن الله قوّى نفس موسى بذلك الجواب لتكون غلبته عليهم بعد أن كانوا هم المبتدئين أوقعَ حجةٍ وأقطع معذرة، وبهذا يظهر أن ليس في أمر موسى عليه السلام إياهم بالتقدم ما يقتضي تسويغ معارضة دعوة الحق لأن القوم كانوا معروفين بالكفر بما جاء به موسى فليس في معارضتهم إياه تجديد كفر، ولأنهم جاءوا مصممين على معارضته فليس الإذن لهم تسويغاً، ولكنهم خيروه في التقدم أو يتقدموا فاختار أن يتقدموا لحكمة إلهية تزيد المعجزة ظهوراً، ولأن في تقديمه إياهم إبلاغاً في إقامة الحجة عليهم، ولعل الله ألقى في نفسه ذلك، وفي هذا دليل على جواز الابتداء بتقرير الشبهة للذي يثق بأنه سيدفعها‏.‏

وقوله ‏{‏فلما ألقوا‏}‏ عطف على محذوف للإيجاز، والتقدير‏:‏ فألْقَوا‏.‏ لأن قوله‏:‏ ‏{‏فلما ألقوا‏}‏ يؤذن بهذا المحذوف، وحذف مفعول ‏{‏ألقَوا‏}‏ لظهوره، أي‏:‏ ألقوا آلات سحرهم‏.‏

ومعنى ‏{‏سحروا أعين الناس‏}‏‏:‏ جعلوها متأثرة بالسحر بما ألقَوا من التخييلات والشعوذة‏.‏

وتعدية فعل ‏{‏سحروا‏}‏ إلى ‏{‏أعين‏}‏ مجاز عقلي لأن الأعين آلة إيصال التخييلات إلى الإدراك، وهم إنما سحروا العقول، ولذلك لو قيل‏:‏ سحروا الناسَ لأفاد ذلك، ولكن تفوت نكتة التنبيه على أن السحر إنما هو تخيلات مرئية، ومثل هذه الزيادة زيادة الأعين في قول الأعشى‏:‏

كذَلكَ فافْعَلْ ما حيَيتَ إذا شَتَوْا *** وَأقْدِم إذَا مَا أعْيُنُ النّاس تَفرقَ

أي إذا ما الناس تفرَق فَرَقا يحصل من رؤية الأخطار المخيفة‏.‏

والاسترهاب‏:‏ طلب الرهب أي الخَوْف‏.‏ وذلك أنهم عززوا تخيلات السحر بأمور أخرى تثير خوف الناظرين، لتزداد تمكن التخيلات من قلوبهم، وتلك الأمور أقوال وأفعال توهم أن سيقع شيء مُخيف كأن يقولوا للناس‏:‏ خُذوا حذركم وحاذروا، ولا تقتربوا، وسيقع شيء عظيم، وسيحضر كبير السحرة، ونحو ذلك من التمويهات، والخزعبلات، والصياح، والتعجيب‏.‏

ولك أن تجعل السين والتاء في ‏{‏واسترهبوهم‏}‏ للتأكيد، أي‏:‏ أرهبوهم رهَبا شديداً، كما يقال استكبر واستجاب‏.‏

وقد بينت في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعلّمون الناس السحر‏}‏ من سورة البقرة ‏(‏102‏)‏ أن مبنى السحر على التخييل والتخويف‏.‏

ووصف السحر بالعظيم لأنه من أعظم ما يفعله السحرة إذ كان مجموعاً مما تفرق بين سحرة المملكة من الخصائص المستورة بالتوهيم الخفية أسبابها عن العامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏117- 119‏]‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ‏(‏117‏)‏ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏118‏)‏ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ‏(‏119‏)‏‏}‏

جملة‏:‏ ‏{‏وأوحينا‏}‏ معطوفة على جمل ‏{‏سحروا أعين الناس، واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 116‏]‏، فهي في حيز جواب لمّا، أي‏:‏ لمّا ألْقَوا سَحَروا، وأوحينا إلى موسى أن الق لهم عصاك‏.‏

و ‏{‏أن‏}‏ تفسيرية لفعل ‏{‏أوحينا‏}‏، والفاء للتعقيب الدال على سرعة مفاجأة شروعها في التلقف بمجرد إلقائها، وقد دل السياق على جملتين محذوفتين، إذ التقدير‏:‏ فألقاها فدبّت فيها الحياة وانقلبت ثعباناً فإذا هي تلقف، دل على الجملة الأولى الأمر بالإلقاء، وعلى الجملة الثانية التلقف لأنه من شأن الحيوان، والعصا إذا دبت فيها الحياة صارت ثعباناً بدون تبديل شكل‏.‏

والتلقف‏:‏ مبَالغة في اللقف وهو الابتلاع والازدراد‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ موصولة والعائد محذوف أي‏:‏ ما يأفكونه‏.‏ والإفك‏:‏ الصرف عن الشيء ويسمى الزور إفكاً، والكذب المصنوعُ إفكاً، لأن فيه صرفاً عن الحق وإخفاء للواقع، فلا يسمى إفكاً إلاّ الكذبُ المصطنع المموه، وإنما جعل السحر إفكاً لأن ما يظْهَر منه مخالف للواقع فشبه بالخبر الكاذب‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏تَلَقّفَ‏}‏ بقاف مشددة، وأصله تتلقف، أي تبالغ وتتكلف اللقف ما استطاعت، وقرأ حفص عن عاصم‏:‏ بسكون اللام وتخفيف القاف على صيغة المجرد‏.‏

والتعبير بصيغة المضارع في قوله‏:‏ ‏{‏تَلقف‏}‏ و‏{‏يأفكون‏}‏ للدلالة على التجديد والتكرير، مع استحضار الصورة العجيبة، أي‏:‏ فإذا هي يتجدد تلقفها لِما يتجدد ويتكرر من إفكهم‏.‏ وتسمية سحرهم إفكاً دليل على أن السحر لا معمول له وأنه مجرد تخييلات وتمويهات‏.‏

وقوله ‏{‏فوقع الحق‏}‏ تفريع على ‏{‏تلقّف ما يأفكون‏}‏‏.‏ والوقوع حقيقته سقوط الشيء من أعلى إلى الأرض، ومنه‏:‏ وقَع الطائر، إذا نَزَل إلى الأرض، واستعير الوقوع لظهور أمر رفيع القدر، لأن ظهوره كان بتأييد الهي فشبه بشيء نزل من علو، وقد يطلق الوقوع على الحصول لأن الشيء الحاصل يشبه النازل على الأرض، وهي استعارة شائعة قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن الدين لَواقع‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 6‏]‏ أي‏:‏ حاصل وكائن، والمعنى فظهر الحق وحصل‏.‏

ولعل في اختيار لفظ ‏(‏وقع‏)‏، هنا دون ‏(‏نزل‏)‏ مراعاة لفعل الإلقاء لأن الشيء الملقَى يقع على الأرض فكانَ وقوع العصا على الأرض وظهور الحق مقترنين‏.‏

و ‏{‏الحق‏}‏‏:‏ هو الأمر الثابت الموافق للبرهان، وضده الباطل، والحق هنا أريد به صدق موسى وصحة معجزته وكون ما فعلته العصا هو من صنع الله تعالى، وأثَرِ قدرته‏.‏

و ‏{‏بطل‏}‏‏:‏ حقيقته اضمحل‏.‏ والمراد‏:‏ اضمحلال المقصود منه وانتفاء أثَرٍ مزعوم لشيء يقال‏:‏ بطَل سعيه، أي‏:‏ لم يأت بفائدة، ويقال‏:‏ بطَل عمله، أي‏:‏ ذهب ضياعاً وخُسر بلا أجر، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويُبْطلُ الباطلَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 8‏]‏ أي‏:‏ يزيل مفعوله وما قصدوه منه، فالباطل هو الذي لا فائدة فيه، أو لا خير فيه، ومنه سمي ضد الحق باطلاً لأنه شيء لا يحصل منه الأثر المرجو، وهو القبول لدى العقول المستقيمة‏.‏

وشاع هذا الإطلاق حتى صار الباطل كالاسم الجامد، مدلوله هو ضد الحق، ويطلق الباطل اسمَ فاعل من بطَل، فيساوي المصدر في اللفظ، ويتعين المراد منهما بالقرينة، فصوغ فعل بطل يكون مشتقاً من المصدر وهو البطلان، وقد يكون مشتقاً من الاسم وهو الباطل‏.‏ فمعنى ‏{‏بطل‏}‏ حينئذٍ وُصف بأنه باطل مثل فَهِد وأسد، ويصح تفسيره هنا بالمعنيين، فعلى الأول يكون المعنى‏:‏ وانتفت حينئذٍ آثار ما كانوا يعملون، وعلى الثاني يكون المعنى‏:‏ واتصف ما يعملون بأنه باطل، وعلى هذا الوجه يتعين أن يكون المراد من الفعل معنى الظهور لا الحدوث، لأن كون ما يعملونه باطلاً وصف ثابت له من قبللِ أن يُلقيَ موسى عصاه، ولكن عند إلقاء العصا ظهر كونه باطلاً، ويبعّد هذا أن استعمال صيغة الفعل في معنى ظهور حدثه لا في معنى وجوده وحدوثه، خلافُ الأصل فلا يصار إليه بلا دَاع‏.‏

وأما من فسر ‏{‏بطل‏}‏ بمعنى‏:‏ العدم‏.‏ وفسر ‏{‏ما كانوا يعملون‏}‏ بحبال السحرة وعصيهم ففي تفسيره نبُو عن الاستعمال، وعن المقام‏.‏

وزيادة قوله‏:‏ ‏{‏وبطل ما كانوا يعملون‏}‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏فوقع الحق‏}‏ تقرير لمضمون جملة ‏{‏فوقع الحق‏}‏ لتسجيل ذم عملهم، ونداءٌ بخيبتهم، تأنيساً للمسلمين وتهديداً للمشركين وللكافرين أمثالها‏.‏

و ‏{‏ما كانوا يعملون‏}‏ هو السحر، أي‏:‏ بطلت تخيلات الناس أن عصي السحرة وحبالهم تسعى كالحيات، ولم يعبّر عنه بالسحر إشارة إلى أنه كان سحراً عجيباً تكلفوا له وأَتوا بمنتهى ما يعرفونه‏.‏

وقد عطف عليه جملة ‏{‏فغُلبوا‏}‏ بالفاء لحصول المغلوبية إثر تلقف العصا لإفكهم‏.‏

و ‏{‏هنالك‏}‏ اسم إشارة المكان أي غلبوا في ذلك المكان فأفاد بداهة مغلوبيتهم وظهورها لكل حاضر‏.‏

والانقلاب‏:‏ مطاوع قَلَبَ والقلب تغيير الحال وتبدله، والأكثر أن يكون تغييراً من الحال المعتادة إلى حال غريبة‏.‏

ويطلق الانقلاب شائعاً على الرجوع إلى المكان الذي يخرج منه ولأن الراجع قد عكس حال خروجه‏.‏

وانقلب من الأفعال التي تجيء بمعنى ‏(‏صار‏)‏ وهو المراد هنا أي‏:‏ صاروا صاغرين‏.‏ واختيار لفظ ‏{‏انقلبوا‏}‏ دون ‏(‏رَجعُوا‏)‏ أو ‏(‏صاروا‏)‏ لمناسبته للفظ غُلبوا في الصيغة، ولما يشعر به أصل اشتقاقه من الرجوع إلى حال أدون، فكان لفظ ‏(‏انقلبوا‏)‏ أدخل في الفصاحة‏.‏

والصّغَار‏:‏ المذلة، وتلك المذلة هي مذلة ظهور عجزهم، ومذلة خيبة رجائهم ما أملوه من الأجر والقرب عند فرعون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏120- 126‏]‏

‏{‏وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ‏(‏120‏)‏ قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏121‏)‏ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏122‏)‏ قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏123‏)‏ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏124‏)‏ قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ‏(‏125‏)‏ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ‏(‏126‏)‏‏}‏

عَطْف على ‏{‏فغُلبوا وانقَلبوا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 119‏]‏، فهو في حيز فاء التعقيب، أي‏:‏ حصل ذلك كله عقب تلقف العصا ما يأفكون، أي‏:‏ بدون مهلة، وتعقيب كل شيء بحسبه، فسجود السحرة متأخر عن مصيرهم صاغرين، ولكنه متأخر بزمن قليل وهو زمن انقداح الدليل على صدق موسى في نفوسهم، فإنهم كانوا أعلم الناس بالسحر فلا يخفى عليهم ما هو خارج عن الأعمال السحرية، ولذلك لما رأوا تلقف عصا موسى لحبالهم وعصيهم جزموا بأن ذلك خارج عن طوق الساحر، فعلموا أنه تأييد من الله لموسى وأيقنوا أن ما دعاهم إليه موسى حق، فلذلك سجدوا، وكان هذا خاصاً بهم دون بقية الحاضرين، فلذلك جيء بالاسم الظاهر دون الضمير لئلا يلتبس بالضمير الذي قبله الذي هو شامل للسحرة وغيرهم‏.‏

والإلقاء‏:‏ مستعمل في سرعة الهُوِي إلى الأرض، أي‏:‏ لم يتمالكوا أن سجدوا بدون تريث ولا تردد‏.‏

وبُني فعل الإلقاء للمجهول لظهور الفاعل، وهو أنفسُهم، والتقدير‏:‏ وألقَوْا أنفسهم على الأرض‏.‏

و ‏{‏ساجدين‏}‏ حال، والسجود هيئة خاصة لإلقاء المرء نفسه على الأرض يقصد منها الإفراط في التعظيم، وسجودهم كان لله الذي عرفوه حينئذٍ بظهور معجزة موسى عليه السلام والداعي إليه بعنوان كونه رب العالمين‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ بدل اشتمال من جملة‏:‏ ‏{‏ألقي السحرة‏}‏ لأن الهوي للسجود اشتمل على ذلك القول، وهم قصدوا من قولهم ذلك الإعلان بإيمانهم بالله لئلا يظن الناس أنهم سجدوا لفرعون، إذ كانت عادة القبط السجود لفرعون، ولذلك وصفوا الله بأنه رب العالمين بالعنوان الذي دَعا به موسى عليه السلام، ولعلهم لم يكونوا يعرفون اسماً علماً لله تعالى، إذ لم يكن لله اسم عندهم، وقد عُلم بذلك أنهم كفروا بالإهية فرعون‏.‏

وزادوا هذا القصد بياناً بالإبدال من ‏{‏رب العالمين‏}‏ قولّهم ‏{‏رب موسى وهارون‏}‏ لئلا يُتوهم المبالغة في وصف فرعون بأنه رب جميع العالمين، وتعين في تعريف البدل طريق تعريف الإضافة لأنها أخصر طريق، وأوضحه هنا، لاسيما إذا لم يكونوا يعرفون اسماً علماً على الذات العلية‏.‏ وهذا ما يقتضيه تعليم الله اسمه لموسى حين كلمه فقال‏:‏ ‏{‏إنني أنا الله‏}‏ في سورة طه ‏(‏14‏)‏‏.‏ وفي سفر الخروج ‏{‏وقال الله لموسى هكذا تقول لبني إسرائيل ‏(‏يهوه‏)‏ إله آبائكم‏}‏ الخ الإصحاح الثالث‏.‏

وفصلت جملة‏:‏ ‏{‏قال فرعون‏}‏ لوقوعها في طريق المحاورة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أآمنتم‏}‏ قرأه الجمهور بصيغة الاستفهام بهمزتين فمنهم من حققها، وهم‏:‏ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وروْح عن يعقوب، وخلفٌ، ومنهم من سهل الثانية مَدّة، فصار بعد الهمزة الأولى مدتان، وهؤلاء هم‏:‏ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وقرأه حفص عن عاصم بهمزة واحدة فيجوز أن يكون إخباراً، ويجوز أن تكون همزة الاستفهام محذوفة وما ذلك ببدع‏.‏

والاستفهام للإنكار والتهديد مجازاً مرسلاً مركباً، والإخبار مستعمل كذلك أيضاً لظهور أنه لا يقصد حقيقة الاستفهام ولا حقيقة الإخبار لأن المخاطبين صرحُوا بذلك وعلموه، والضمير المجرور بالباء عائد إلى موسى، أي‏:‏ آمنتم بما قاله، أو إلى رب موسى‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن هذا لمكر‏}‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ خبر مراد به لازم الفائدة أي‏:‏ قد علمتُ مرادكم لأن المخاطَب لا يخبَر بشيء صَدر منه، كقول عنترة‏:‏

إنْ كنتتِ أزمعتتِ الفراق فإنما *** زُمّتْ ركابُكُم بليل مظلم

أي‏:‏ إن كنت أخفيتتِ عني عزمك على الفراق فقد علمتُ أنكم شددتُم رحالكم بليل لترحلوا خفية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قَبْلَ أنْ آذنَ لكُم‏}‏ ترق في موجب التوبيخ، أي لم يكفكم أنكم آمنتم بغيري حتى فعلتم ذلك عن غير استئذان، وَفصْلها عما قبلها لأنها تعداد للتوبيخ‏.‏

والمكر تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومكروا ومكر الله‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏54‏)‏، وتقدم آنفاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفأمنوا مَكر الله‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 99‏]‏ والضمير المنصوب في ‏{‏مكرتموه‏}‏ ضمير المصدر المؤكّد لفعله‏.‏

و ‏{‏في‏}‏ ظرفية مجازية‏:‏ جعل مكرهم كأنه موضوع في المدينة كما يوضع العنصر المفسد، أي‏:‏ أردتم إضرار أهلها، وليست ظرفية حقيقية لأنها لا جدوى لها إذ معلوم لكل أحد أن مكرهم وقع في تلك المدينة، وفسره في «الكشاف» بأنهم دبروه في المدينة حين كانوا بها قبل الحضور إلى الصحراء التي وقعت فيها المحاورة، وقد تبين أن المراد بالظرفية ما ذكرناه بالتعليل الذي بعدها في قوله‏:‏ ‏{‏لتخرجوا منها أهلها‏}‏ والمراد هنا بعض أهلها، وهم بنو إسرائيل، لأن موسى جاء طلباً لإخراج بني إسرائيل كما تقدم‏.‏

وقول فرعون هذا يحتمل أنه قاله موافقاً لظنه على سبيل التهمة لهم لأنه لم يكن له علم بدقائق علم السحر حتى يفرق بينه وبين المعجزة الخارقة للعادة، فظن أنها مكيدة دبرها موسى مع السحرة، وأنه لكونه أعلمهم أو معلمهم أمرهم فاتمروا بأمره، كما في الآية الأخرى ‏{‏إنه لكبيركم الذي علمكم السحر‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 71‏]‏‏.‏

ويحتمل أنه قاله تمويهاً وبهتاناً ليصرف الناس عن اتباع السحرة، وعن التأثر بغلبة موسى إياهم فيدخل عليهم شكاً في دلالة الغلبة واعتراف السحرة بها، وأن ذلك مواطاة بين الغالب والمغلوب لغاية مقصودة، وهو موافق في قوله هذا، لما كان أشار به‏.‏

الملأ من قومه حين قالوا‏:‏ ‏{‏يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 35‏]‏ وأيّا ما كان فعزمه على تعذيبهم مصير إلى الظلم والغشم لأنه ما كان يحق له أن يأخذهم بالتهمة، بله أن يعاقبهم على المصير إلى الحجة، ولكنه لما أعجزته الحجة صار إلى الجبروت‏.‏

وَفرع على الإنكار والتوبيخ الوعيدَ بقوله‏:‏ ‏{‏فسوف تعلمون‏}‏، وحذف مفعول ‏{‏تعلمون‏}‏ لقصد الإجمال في الوعيد لإدخال الرعب، ثم بيّنه بجملة ‏{‏لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف‏}‏‏.‏ ووقوع الجمع معرفاً بالإضافة يكسبه العموم فيعم كل يدَ وكل رجْل من أيدي وأرجل السحرة‏.‏

و ‏{‏منْ‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من خلاف‏}‏ ابتدائية لبيان موضع القطع بالنسبة إلى العضو الثاني، وقد تقدم بيان نظيرها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو تُقطّعُ أيْدِيهمْ وَأرْجُلُهمْ من خلاف‏}‏ في سورة المائدة ‏(‏33‏)‏‏.‏ فالمعنى‏:‏ أنه يقطع من كل ساحر يداً ورجلاً متخالفتي الجهة غير متقابلتيها، أي‏:‏ إنْ قطعَ يدَه اليمنى قطعَ رجله اليسرى والعكس، وإنما لم يقطع القوائم الأربع لأن المقصود بقاء الشخص متمكناً من المشي متوكئاً على عود تحت اليد من جهة الرجل المقطوعة‏.‏

ودلت ثُم‏}‏ على الارتقاء في الوعيد بالثلب، والمعروف أن الصلب أن يقتل المرء مشدوداً على خشبة، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وما قتلوه وما صلبوه‏}‏ في سورة النساء ‏(‏157‏)‏، وعلى هذا يكون توعّدهم بنوعين من العذاب‏.‏ والوعيد موجّه إلى جماعتهم فعلم أنه جعلهم فريقين‏:‏ فريق يعذب بالقطع من خلاف، وفريق يعذب بالصلب والقتل، فعلى هذا ليس المعنى على أنه يصلبهم بعد أن يقطعهم، إذ لا فائدة في تقييد القطع بكونه من خلاف حينئذٍ ويحتمل أن يراد بالصلب‏:‏ الصلب دون قتل، فيكون أراد صلبهم بعد القطع ليجعلهم نكالاً ينذعر بهم الناس، كيلا يُقدم أحد على عصيان أمره من بعد، فتكون ‏(‏ثم‏)‏ دالة على الترتيب والمهلة، ولعل المهلة قصد منها مدة كيّ واندمال موضع القطع، وهذا هو المناسب لظاهر قوله‏:‏ ‏{‏أجمعين‏}‏ المفيد أن الصلب ينالهم كلهم‏.‏

وفصلت جملة ‏{‏قالوا إنا إلى ربنا منقلبون‏}‏ لوقوعها في سياق المحاورة‏.‏

والانقلابُ‏:‏ الرجوع وقد تقدم قريباً‏.‏ وهذا جواب عن وعيد فرعون بأنه وعيد لا يضيرهم، لأنهم يعلمون أنهم صائرون إلى الله رب الجميع، وقد جاء هذا الجواب موجزاً إيجازاً بديعاً لأنه يتضمن أنهم يرجون ثواب الله على ما ينالهم من عذاب فرعون، ويرجون منه مغفرة ذنوبهم، ويرجون العقابَ لفرعون على ذلك، وإذا كان المراد بالصلب القتل وكان المراد تهديد جميع المؤمنين، كان قولهم‏:‏ ‏{‏إنا إلى ربنا منقلبون‏}‏ تشوقاً إلى حلول ذلك بهم محبة للقاء الله تعالى، فإن الله تعالى لما هداهم إلى الإيمان أكسبهم محبة لقائه، ثم بينوا أن عقاب فرعون لا غضاضة عليهم منه، لأنه لم يكن عن جناية تَصمهم بل كان على الإيمان بآيات لما ظهرت لهم‏.‏ أي‏:‏ فإنك لا تعرف لنا سبباً يوجب العقوبة غير ذلك‏.‏

والنّقْم‏:‏ بسكون القاف وبفتحها، الإنكار على الفعل، وكراهة صدوره وحقد على فاعله، ويكون باللسان وبالعمل، وفعله من باب ضرب وتعب، والأول أفصح ولذلك قرأه الجميع ‏{‏ومَا تنقمُ‏}‏ بكسر القاف‏.‏

والاستثناء في قولهم‏:‏ ‏{‏إلاّ أن آمنا بآيات ربنا‏}‏ متصل، لأن الإيمان ينقمه فرعون عليهم، فليس في الكلام تأكيد الشيء بما يشبه ضده‏.‏

وجملة ‏{‏ربنا أفرغ علينا صبراً‏}‏ من تمام كلامهم، وهي انتقال من خطابهم فرعون إلى التوجه إلى دعاء الله تعالى، ولذلك فصلت عن الجملة التي قبلها‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏ربنا أفرغ علينا صبراً‏}‏ اجعل لنا طاقة لتحمل ما توعدنا به فرعون‏.‏

ولما كان ذلك الوعيد مما لا تطيقه النفوس سألوا الله أن يجعل لنفوسهم صبراً قوياً، يفوق المتعارف، فشه الصبر بماء تشبيه المعقول بالمحسوس، على طريقة الاستعارة المكنية، وشبه خلقُه في نفوسهم بإفراغ الماء من الإناء على طريقة التخييلية، فإن الإفراغ صّب جميع ما في الإناء، والمقصود من ذلك الكناية عن قوة الصبر لأن إفراغ الإناء يستلزم أنه لم يبق فيه شيء مما حواه، فاشتملت هذه الجملة على مكنية وتخييلية وكناية‏.‏

وتقدم نظيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏250‏)‏‏.‏

ودعوا لأنفسهم بالوفاة على الإسلام إيذاناً بأنهم غير راغبين في الحياة، ولا مبالين بوعيد فرعون، وأن همتهم لا ترجو إلاّ النجاة في الآخرة، والفوزَ بما عند الله، وقد انخذل بذلك فرعون، وذهب وعيده باطلاً، ولعله لم يحقق ما توعدهم به لأن الله أكرمهم فنجاهم من خزي الدنيا كما نجاهم من عذاب الآخرة‏.‏

والقرآن لم يتعرض هنا، ولا في سورة الشعراء، ولا في سورة طه، للإخبار عن وقوع ما توعدهم به فرعون لأن غرض القصص القرآنية هو الاعتبار بمحل العبرة وهو تأييد الله موسى وهداية السحرة وتصلبهم في إيمانهم بعد تعرضهم للوعيد بنفوس مطمئنّة‏.‏

وليس من غرض القرآن معرفة الحوادث كما قال في سورة النازعات ‏(‏26‏)‏‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لعبرة لمن يخشى‏}‏ فاختلاف المفسرين في البحث عن تحقيق وعيد فرعون زيادة في تفسير الآية‏.‏

والظاهر أن فرعون أفحم لما رأى قلة مبالاتهم بوعيده فلم يُرد جواباً‏.‏

وذكرُهم الإسلام في دعائهم يدل على أن الله ألهمهم حقيقته التي كان عليها النبيّون والصديقون من عهد إبراهيم عليه السلام‏.‏

والظاهر أن كلمة مسلمين‏}‏ تعبير القرآن عن دعائهم بأن يتوفاهم الله على حالة الصديقين، وهي التي يجمعُ لفظُ الإسلام تفصيلها، وقد تقدم شرح معنى كون الإسلام وهو دين الأنبياء عند قوله‏:‏ ‏{‏فلا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏132‏)‏‏.‏